عن الصادق عليه السلام: حدّثني أبي، عن أبيه عليه السلام: “أنّ الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ، حجّ ماشياً، وربّما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصِراط بكى، وإذا ذكر العَرْض على الله، تعالى ذكره، شَهِق شَهْقة يُغشى عليه منها.
وكان إذا قام في صلاته، ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّ وجلّ، وكان إذا ذكر الجنّة والنّار، اضطرب اضطراب السليم21، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوّذ به من النّار. وكان عليه السلام لا يقرأ من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إلّا قال: “لبّيك اللَّهم لبّيك. ولم يُرَ في شيء من أحواله إلّا ذاكراً لله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجةً، وأفصحهم منطقاً”.
وروي أنّ شاميّاً رآه راكباً، فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه وضحك، وقال: “أيّها الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبَّهت, فلو استعتبتنا أعتبناك, ولو سألتنا أعطيناك, ولو استرشدتنا أرشدناك, ولو استحملتنا حملناك, وإن كنت جائعاً أشبعناك, وإن كنت عرياناً كسوناك, وإن كنت محتاجاً أغنياك, وإن كنت طريداً آويناك, وإن كان لك حاجة قضيناها لك, فلو حرَّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك, لأنّ لنا موضعاً رحباً, وجاهاً عريضاً, ومالاً كبيراً”، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى, ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه, الله أعلم حيث يجعل رسالته, وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ, والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم.
وروي أنّه عليه السلام مرّ على فقراء، وقد وضعوا كسيرات على الأرض، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمَّ يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء، قال: فنزل، وقال: “إنّ الله لا يحبّ المستكبرين”، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا، والزاد على حاله ببركته، ثمّ دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم.
وعن بعضهم، أنّه قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ما بلغ الحسن عليه السلام، كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما مرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته، فمَرَّ الناس. ولقد رأيته في طريق مكّة ماشياً، فما من خلق الله أحدٌ رآه إلّا نزل ومشى، حتى رأيت سعد بن أبي وقّاص يمشي!
وذكر في المناقب أنّه كان عليه السلام إذا توضّأ، ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: حقٌ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه، وترتعد مفاصله.
وكان عليه السلام إذا بلغ باب المسجد، رفع رأسه، ويقول: “إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي، بجميل ما عندك يا كريم”.
وكان إذا فرغ من الفجر، لم يتكلّم حين تطلع الشمس، وإن زحزح. أي وإن أريد تنحيه من ذلك، باستنطاق ما يهمّ.
وعن الصادق عليه السلام، أنّ الحسن بن عليّ عليه السلام حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً، وقاسَم الله تعالى ماله مرّتين. وفي خبر: قاسَم ربّه ثلاث مرّات، وحجّ عشرين حجّة على قدميه.
وروي عنه عليه السلام، قوله: “إنّي لأستحيّي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته, فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه”.
وروي أنّه عليه السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات، حتّى إن كان ليعطى نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطى خفّاً ويمسك خفّا.
عن الرضا، عن آبائه، قال: “لمّا حضرت الحسن بن عليّ بن أبي طالب الوفاة بكى، فقيل له: يا ابن رسول الله أتبكي، ومكانك من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذي أنت به؟ وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما قال؟ وقد حججت عشرين حجّة ماشياً؟ وقد قاسمت ربّك مالك ثلاث مرّات حتّى النعل والنعل؟ فقال عليه السلام: “إنّما أبكي لخصلتين: لهول المطلع وفراق الأحبّة”.
وعن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: كتب إلى الحسن بن عليّ عليه السلام قومٌ من أصحابه يعزّونه عن ابنة له، فكتب إليهم: “أمّا بعد، فقد بلغني كتابكم تعزّوني بفلانة، فعند الله أحتسبها تسليماً لقضائه، وصبراً على بلائه، فإن أوجعتنا المصائب, وفجعتنا النوائب بالأحبّة المألوفة، التي كانت بنا حفيّة28، والإخوان المحبّين، الذين كان يسرّ بهم الناظرون، وتقرّ بهم العيون. أضحوا قد اخترمتهم الأيّام, ونزل بهم الحِمام، فخلفوا الخلوف، وأودت بهم الحتوف، فهم صرعى في عساكر الموتى، متجاورون في غير محلّة التجاور، ولا صلاة بينهم ولا تزاور، ولا يتلاقون عن قرب جوارهم، أجسامهم نائية من أهلها, خالية من أربابها، قد أجشعها29 إخوانها، فلم أرَ مثل دارها داراً، ولا مثل قرارها قراراً في بيوت موحشة، وحلول مخضعة، قد صارت في تلك الديار الموحشة، وخرجت عن الدار المؤنسة، ففارقتها من غير قِلىً30، فاستودعتها البلاء، وكانت أمّة مملوكة، سلكت سبيلاً مسلوكة, صار إليها الأوّلون، وسيصير إليها الآخرون, والسلام”.