الـ 8 من شوال يصادف ذكرى مريرة على قلوب أحبة أهل بيت النبوة (ع)، ألا وهو يوم ذكرى هدم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام) على أيدي الطغاة الذين لم يراعوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي رحاب هذه الذكرى لنقف قليلا في رحاب البقيع الغرقد، ولنعرف.
لِمن القبور الدارسات بطيبة * عفّت لها أهل الشقا آثارا
قُل للّذي أفتى بهدم قبورهم * أن سوف تصلى في القيامة نارا
أعَلِمتَ أيَّ مراقد هدمتها * هي للملائك لا تزال مزارا
البقيع الغرقد سبب التسمية:
أصل البقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أُرم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد، والغرقد: كبار العوسج، فلذا سُمّي ببقيع الغرقد لأن هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه، ولكنه قُطع.
يقول الدكتور محمّد البكري الذي شارك في تأليف كتاب بقيع الغرقد: «إن النبيّ خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثاً عن مكان يدفن فيه أصحابه، حتى جاء البقيع وقال: أمرتُ بهذا الموضع، وكان شجر الغرقد كثيراً فسُميت به».
أول من دُفن بالبقيع الغرقد:
قيل: كان البقيع مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه:
أين الذين عهدتهم فـي غبـطـة * بين العقيق إلى بقيع الغــرقــد
إلا أنه بعد الإسلام خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، وكان اليهود يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب)، وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع.
وأول من دُفن فيه من المسلمين هو أسعد بن زرارة الأنصاري، وكان من الأنصار، ثم دفن بعده الصحابي الجليل عثمان بن مضعون، وهو أول من دُفن فيه من المسلمين المهاجرين، وقد شارك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في دفنه، ثم دفن إلى جانبه إبراهيم ابن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولذلك رغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن.
ابتدئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة.
ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين وبأمر من العلماء، كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما.
الرسولُ (صلى الله عليه وآله) وإهتمامه بموتى البقيع الغرقد
هذه مقطوفات يذكرها أحد الكتّاب الشيعة من كتاب موسوعة العتبات المقدسة لأحد السنة المحققين:
أصبح البقيع في أرض المدينة المنورة مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين, وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقصد البقيع يؤمّه كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه، وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه.
وقد روى مسلم في الصحيح عن عائشة أنها قالت: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) كلما كانت ليلتي منه يخرج من أخر الليل الى البقيع، فيقول: سلامٌ عليكم دار قومٍ مؤمنين, وآتاكم ماتوعدون, وانّا إن شاء الله بكم لاحقون, اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد.
وحدّث محمد بن عيسى بن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي الباب, فمرّ بي جعفر بن محمد ـ يعني الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ـ، فقال لي: أعن أثرٍ وقفت هاهنا؟ قلت: لا, قال: هذا موقف نبي الله (صلى الله عليه وآله) بالليل إذا جاء يستغفر لاهل البقيع.
لذلك كبر شأن البقيع وكثر رواده بقصد الدعاء والاستغفار أو التسلية, طبقاً للحديث الوارد: إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور، حتى أصبح ملتقى الجماعات, وأشبه ما يكون بالمنتدى والمجلس العام، والظاهر أنّ هذه المقبرة ظلّت عامرة بأضرحتها وابنيتها الضخمة والقبب القائمة على مدافن المشاهير والأعلام, حتى جاء ذلك اليوم الأسود!
لماذا هدم الوهابيون قبور البقيع الغرقد؟
يعتقد الوهابيون ـ على خلاف جمهور المسلمين ـ أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله، يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!
ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار، فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوباً والأحمر والخليج غرباً وشرقا.
ولقد انصبّ الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين طهّرهم الله من الرجس تطهيرا.
وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ـ ولكثرة ما بهما من آثار دينية ـ من أكثر المدن تعرضاً لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد. وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.
الوهابيون قد قدموا إلى تهديم قبور البقيع مرتين في التاريخ المشؤوم