“غزوة الخندق” كانت في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة 627 م، وقيل: في شوال، وقيل: في السنة السادسة، بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً.
وكان سببها: لمَّا أجلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وحزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقدموا على قريش بمكَّة، وألَّبوها على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: نكون معكم حتَّى نستأصله، وما كان من أمر قريش الا أن تستجيب لضالَّتها المنشودة في القضاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعوانه.
وتجهَّزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق، ممن ذُكر من القبائل، عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر بقيادة أبي سفيان بن حرب.
فلمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم جمع المسلمين، وحثَّهم على الجهاد والصبر والاستعداد لمقابلة الغزاة وشاورهم في الأمر، فأشار عليه سلمان الفارسي بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، لأنَّ عملاً من هذ النوع لابدَّ وأن يعرقل تقدُّم الغزاة، ويخفِّف من أخطار المجابهة بين الفريقين.
وأقبل المسلمون جميعاً يحفرون خندقاً حول المدينة، وجعل رسول الله لكلِّ عشرة أربعين ذراعاً، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وفرغوا من حفره في ستة أيام، وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان، فهي كالحصن، وكان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف مقاتل.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتال قريش وأحباشها، وهنا كانت الصدمة الكبيرة على قريش، وهي تحسب أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه لا يثبتون لها ساعات قلائل بهذا العدد الضخم، وإذا بها تجد بينها وبين المسلمين حاجزاً لا يمكن اجتيازه الا بعد جهود شاقة، لاسيَّما وأنَّ أبطال المسلمين وقفوا بالمرصاد لكل من تحدِّثه نفسه باجتياز ذلك الحاجز، فأُذهلت بعد أن كانت مغرورة بقوتها الجبَّارة!
وأنكروا أمر الخندق، وقالوا: ما كانت العرب تعرف هذا، وأقاموا على هذه الحال ـ الرشق بالنبل والحجارة ـ مدَّة خمسة أيام دون قتال..
فلمَّا كان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبد ودٍّ العامري ـ وكان يعدّ بألف فارس ـ وأربعة نفر من المشركين: نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطَّاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، واقتحموا الخندق من مكان ضيِّق، وركز عمرو رمحه في الأرض ـ وهو ابن تسعين سنة6 ـ وأخذ يجول، ويدعو إلى البراز ويرتجز:.
ولقــد بححتُ من النـداءِ * بجمعهم هــل من مبارز؟
انِّـي كـذلــك لـم أزل * متسرِّعاً نحـو الهزاهــز
إنَّ الشجاعــة فـي الفتى * والجود من خير الغرائز
وكأنَّ هذه الكلمات نداء إلى الموت، فلم يجبه أحد من المسلمين، وفي كلِّ مرّة يكرّر فيها نداءه كان يقوم له عليُّ بن أبي طالب عليه السلام من بينهم ليبارزه، فيأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرَّك غيره، ولكن لم ينهض أحد؛ لمكان عمرو بن عبد ودٍّ ومن معه.
ومضى عمرو يكرِّر النداء والتحدِّي للمسلمين، فقام عليٌّ عليه السلام مرَّةً أُخرى، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: “إنَّه عمرو”، ونادى مرَّةً أُخرى، فقام عليٌّ عليه السلام، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له: “ادنُ منِّي” فدنا منه، فنزع عمامته عن رأسه وعمَّمه بها وأعطاه سيفه ذا الفقار، وقال له: “امضِ لشأنك” ثُمَّ رفع يديه وقال: “اللَّهمَّ إنَّك أخذت منِّي حمزة يوم أُحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليَّاً، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين”.
وقال نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا دنا عليٌّ عليه السلام من عمرو: “خرج الإيمان سائره إلى الكفر سائره”..
فبرز إليه عليٌّ، وهو يقول:
“لا تعجلـنَّ فقد أتــاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيَّةٍ وبصيــرة والـ * صدق منجي كلَّ فائــز
إنِّي لأرجـو أن أُقيـم * عليك نائحـة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى * صيتها بعد الهزاهز”
فلمَّا انتهى إليه قال: “يا عمرو إنَّك في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث الا قبلتها، أو واحدة منها”. قال: أجل.
قال: “فإنِّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله الا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأن تُسلم لربِّ العالمين”.
قال: يا ابن أخ، أخِّر هذه عنِّي. فقال له عليٌّ: “أمَّا إنَّها خيرٌ لك لو أخذتها”.
ثُمَّ قال: “فها هنا أُخرى” قال: ما هي؟ قال: “ترجع من حيث جئت”. قال: لا تَحدَّث نساء قريش بهذا أبداً.
قال: “فها هنا أُخرى”. قال: ما هي؟ قال: “تنزل تقاتلني” فضحك عمرو وقال: إنَّ هذه الخصلة ما كنت أظنَّ أنَّ أحداً من العرب يرومني مثلها، إنِّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً8.
قال عليٌّ عليه السلام: “ولكنِّي أُحبُّ أن أقتلك، فانزل إن شئت”.
فغضب عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتى رجع، وحمل على عليٍّ عليه السلام وضربه على رأسه فاتَّقاها بالدرقة، فقدَّها السيف ونفذ منها إلى رأسه فشجَّه، وبقي محتفظاً بثباته، وتوالت عليه الضربات وهو يحيد عنها، ثُمَّ كرَّ عليه عليٌّ عليه السلام فضربه على حبل عاتقه ضربةً كان دويُّها كالصاعقة، ارتجَّ له العسكران، فسقط يخور بدمه كالثور، وارتفعت غبرة حالت بينهما وبين الجيشين.
وعلت أصوات المسلمين بالتكبير، بعد أن أصابهم الخوف في بادئ الأمر، وانهزم الذين كانوا مع عمرو بن عبد ودٍّ، واقتحمت خيولهم الخندق، وكبا بنوفل بن عبدالله بن المغيرة فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة، فقال لهم: قتلة أجمل من هذه، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليه السلام فضربه حتَّى قتله، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فانصرفوا هاربين لا يلوون على شيء، حتَّى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقوله! فلمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله ذلك: قال: “عوجل الشيخ”.