هو الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب, سابع أئمّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
ولادته وشهادته:
ولد عليه السلام في الأبواء- بين مكّة والمدينة- في السابع من صفر سنة 128 للهجرة , واستشهد في شهر رجب سنة 183 للهجرة في الخامس والعشرين منه2 على الأشهر3 , وقيل: لستٍّ بقين منه , وقيل: لخمسٍ خلون منه , وقيل: لستٍّ خلون منه.
وقبض عليه السلام ببغداد مسموماً على يد السنديّ بن شاه في حبسه , ودفن ببغداد في مقبرة قريش.
كنيته وألقابه:
أمّا كنيته فأبو الحسن الأوّل, وأبو الحسن الماضي, وأبو إبراهيم, وأبو عليّ.
وأمّا ألقابه, فيعرف بالعبد الصالح, والنفس الزكيّة, وزين المجتهدين, والوفيّ, والصابر, والأمين, والزاهر, وسمّي بذلك لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التامّ.
وأشهر ألقابه الكاظم وسمّي الكاظم لما كظمه من الغيظ, وغضّ بصره عمّا فعله الظالمون به حتّى مضى قتيلاً في حبسهم.
وروى الصدوق أعلى الله مقامه, عن ربيع بن عبد الرحمن قال: كان والله موسى بن جعفر عليهما السلام من المتوسّمين, يعلم من يقف عليه بعد موته, ويجحد الإمامة بعد إمامته, وكان يكظم غيظه عليهم, ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم, فسمّي الكاظم لذلك.
ويعرف بباب قضاء الحوائج عند الله, وذلك لنجح قضاء حوائج السائلين , ومطالب المتوسّلين إلى الله تعالى به.
وروى الخطيب البغداديّ بسنده عن الحسن بن إبراهيم أبي عليّ الخلّال أنّه قال: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهَّل الله تعالى لي ما أحبّ.
ورؤي في بغداد امرأة تهرول فقيل: إلى أين؟ قالت: إلى موسى بن جعفر فإنّه حُبِسَ ابني، فقال لها رجل-مستهزئاً-: إنّه قد مات في الحبس، فقالت: بحقِّ المقتول في الحبس أن تريني القدرة, فإذا بابنها قد أطلق وأُخذ ابنُ المستهزئ بجنايته.
وفي بعض الروايات عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال لزكريا بن آدم بن عبد الله بن سعد الأشعريّ: “إنّ الله يدفع البلاء بك عن أهل قمّ كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبر موسى بن جعفر عليهما السلام”.
والدته المصفَّاة:
أمّه أمّ ولد يقال لها حميدة المصفَّاة, وعن المعلّى بن خنيس أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال: “حميدة مصفّاة من الأدناس، كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتّى أُدِّيت إليَّ كرامةً من الله لي والحجّة من بعدي”.
ويروى أنّ الإمام الباقر عليه السلام عندما سألها: “ما اسمك؟” قالت: حميدة، فقال عليه السلام: “حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة”.
قال المحدّث الشيخ عبّاس القمّي رحمه الله: الظاهر عندي من بعض الروايات أنّها كانت في غاية العلم والفقاهة والتبحّر في أحكام الدين, حتّى أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يأمر النساء بالرجوع إليها في أخذ الأحكام.
مع أبيه الإمام الصادق عليه السلام:
وكان والده الإمام الصادق عليه السلام يحوطه بالمحبّة والرعاية والاهتمام الخاصّ منذ صغره, ويقول فيه ما برز شأنه وعلوّ مقامه, تدليلاً على منزلته ودرجته التي اختصّه الله تعالى بها, فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حججنا مع أبي عبد الله عليه السلام في السنة التي ولد فيها ولده موسى عليه السلام فلمّا نزلنا الأبواء وضع لنا الغداء، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة، فقال: إنّ حميدة تقول لك: إنّي قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرتني ولادتي، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابني هذا، قال: فقام أبو عبد الله عليه السلام فانطلق مع الرسول فلمّا انطلق قال له أصحابه: سرّك الله وجعلنا فداك ما صنعت حميدة؟ قال: “قد سلّمها الله, وقد وهب لي غلاماً وهو خير من برأ الله في خلقه”.
وعن منهال القصّاب، قال: خرجت من مكّة وأنا أريد المدينة فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد الله موسى عليه السلام فسبقته إلى المدينة، ودخل بعدي بيوم، فأطعم الناس ثلاثاً، فكنت آكل فيمن يأكل، فما آكل شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثاً، أطعم حتّى أرتفق24 ثمّ لا أطعم شيئاً إلى الغد.
وعن المفضّل بن عمر قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام أبا الحسن عليه السلام- وهو يومئذٍ غلام- فقال: “هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه!..”.
وكان الإمام الصادق عليه السلام يحبّه ويميل إليه , وروي أنّه قيل له عليه السلام: ما بلغ بك من حبّك موسى؟ قال: “وددت أن ليس لي ولد غيره حتّى لا يشركه في حبّي له أحد”.
وعن الرضا عليه السلام أنّ موسى بن جعفر عليه السلام تكلّم يوماً بين يدي أبيه عليه السلام فأحسن فقال له: “يا بني, الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء”.
فضائله ومناقبه وبعض أحواله
بالحديث عن فضائله فإنّها أكثر من أن تعدّ وتحصى, وفوق أن تحصر وتروى, فقد كان عليه السلام أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نفساً.
أمّا عبادته: فقد روي: أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثمّ يعقب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتّى يقرب زوال الشمس. وكان يدعو كثيراً فيقول: “أللهم إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب” ويكرّر ذلك. وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلّ لحيته بالدموع.
وكان عليه السلام يدعى “العبد الصالح” من عبادته واجتهاده. وقيل: إنّه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة في أوّل الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: “عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة” وجعل يردّدها حتّى أصبح”.
وروي أنّه كانت لموسى بن جعفر عليهما السلام, بضع عشرة سنة كلّ يوم سجدة بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، وكان عليه السلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن فكان إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلّ لحيته بالدموع.
وعن أحمد بن عبد الله، عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً, فقال: انظر حسناً, فتأمّلت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على هذه الحالة, إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه، فإذا صلّى العتمة أفطر، ثمّ يجدِّد الوضوء ثمّ يسجد فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر.
وعن هشام بن أحمر قال: كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثنى رجله عن دابته، فخرّ ساجداً، فأطال وأطال، ثمّ رفع رأسه وركب دابته فقلت: جعلت فداك قد أطلت السجود؟ فقال: “إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربّي”.
وعن عليّ بن جعفر أنّه قال: خرجنا مع أخي موسى بن جعفر عليه السلام في أربع عُمَر يمشي فيها إلى مكّة بعياله وأهله، واحدة منهنّ مشى فيها ستّة وعشرين يوماً، وأخرى خمسة وعشرين يوماً، وأخرى أربعة وعشرين يوماً وأخرى أحداً وعشرين يوماً.
وكان معروفاً باستجابة الدعاء, فقد حكي أنّه مغص بعض الخلفاء فعجز بختيشوع النصرانيّ عن دوائه وأخذ جليداً فأذابه بدواء ثمّ أخذ ماء وعقده بدواء وقال: هذا الطب إلا أن يكون مستجاب دعاء ذا منزلة عند الله يدعو لك، فقال الخليفة: عليّ بموسى بن جعفر، فأتي به فسمع في الطريق أنينه فدعا الله سبحانه وزال مغص الخليفة، فقال له: بحقّ جدّك المصطفى أن تقول بمَ دعوت لي؟ فقال عليه السلام قلت: “أللهمّ كما أريته ذلّ معصيته فأَرِه عزّ طاعتي” فشفاه الله من ساعته.
وعن حمّاد بن عيسى قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بالبصرة فقلت له: جعلت فداك ادع الله تعالى أن يرزقني داراً، وزوجةً، وولداً، وخادماً، والحجّ في كلّ سنة، قال: فرفع يده ثمّ قال: “أللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد وارزق حمّاد بن عيسى داراً وزوجةً وولداً وخادماً والحجّ خمسين سنة”, قال حمّاد: فلمّا اشترط خمسين سنة علمت أنّي لا أحجّ أكثر من خمسين سنة، قال حمّاد: وقد حججت ثماني وأربعين سنة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني، وهذه خادمي وقد رزقت كلّ ذلك، فحجّ بعد هذا الكلام حجّتين تمام الخمسين، ثمّ خرج بعد الخمسين حاجّاً فزامل أبا العبّاس النوفليّ فلمّا صار في موضع الإحرام دخل يغتسل فجاء الوادي فحمله فغرق، فمات رحمنا الله وإيّاه قبل أن يحجّ زيادة على الخمسين وقبره بسيّالة وكان عليه السلام شيخاً بهيّاً كريماً، أعتق ألف مملوك وكان يبلغه عن رجل أنّه يؤذيه، فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار.
وكان يصرّ الصرر ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار ومائتي دينار ثمّ يقسّمها بالمدينة. وكانت صرّة موسى إذا جاءت الإنسان استغنى.
وكان يُضرب بها المثل, فكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة
وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم فيه العَيْن42 والوَرِق43 والأدِقّة44 والتمور، فيوصل إليهم ذلك، ولا يعلمون من أيّ جهة هو.
وكان عليه السلام زاهداً في الدنيا لا تهمّه زخرفاتها وزبرجاتها, يعمل بكدّ يمينه وعرق جبينه: فعن إبراهيم بن عبد الحميد قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه السلام في بيته الذي كان يصلّي فيه، فإذا ليس في البيت شيء إلّا خصفة وسيف معلّق، ومصحف.
وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ فقال: “يا عليّ قد عمل باليد من هو خير منّي في أرضه ومن أبي”، فقلت له: ومن هو؟ فقال: “رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وآبائي عليهم السلام كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء والصالحين”47.
هذا, مع صبره وتحمّله للأذى, وكظمه للغيظ, حتّى عرف بالكاظم, وعفوه عمّن أساء واعتذر, حتّى روي أنّه أحضر وُلْدَه يوماً فقال لهم: “يا بَنِيَّ إنّي موصيكم بوصيّة من حفظها لم يضع معها, إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً, ثمّ تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً, فاقبلوا عذره”