بعث ابن زياد رسولا الى يزيد يخبره بقتل الحسين ومن معه وأن عياله في الكوفة وينتظر امره فيهم, فعاد الجواب بحملهم والرؤوس معهم.
فأمر ابن زياد زجر بن قيس وأبا بردة بن عوف الازدي وطارق بن ظبيان في جماعة من الكوفة أن يحملوا رأس الحسين ورؤوس من قتل معه الى يزيد وسرح في أثرهم علي بن الحسين مغلولة يديه الى عنقه وعياله معه على حال تقشعر منها الابدان.
وكان معهم شمر بن ذي الجوشن ومجفر بن ثعلبة العائدي وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وجماعة وأمرهم أن يلحقوا الرؤوس ويشهروهم في كل بلد يأتونها فجدوا السير حتى لحقوا بهم في بعض المنازل.
وفي بعض المنازل وضعوا الرأس المطهر فلم يشعر القوم إلا وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم.
أترجو أمة قتلت حسين شفاعةَ جَدّه يومَ الحساب؟
فلم يعتبروا بهذه الآية وأرداهم العمى الى مهوى سحيق ونعم الحكم الله تعالى.
وقبل أن يصلوا الموضع بفرسخ وضعوا الرأس على صخرة هناك فسقطت منه قطرة دم على الصخرة فكانت تغلي كل سنة يوم عاشوراء ويجتمع الناس هناك من الاطراف فيقيمون المأتم على الحسين ويكثر العويل حولها وبقي هذا الى أيام عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحجر فلم ير له أثر بعد ذلك ولكنهم بنوا في محل الحجر قبة سموها “النقطة”.
وكان بالقرب من “حماة” في بساتينها مسجد يقال له مسجد الحسين ويحدّث القَومة: ان الحجر والاثر والدم موضع رأس الحسين حين ساروا به الى دمشق.
وفي كتاب الارشارات الى معرفة الزيارات تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي المتوفى سنة 611 ص66: في مدينة نصيبين مشهد النقطة يقال انه من دم رأس الحسين عليه السلام, وفي سوق النشابين مشهد الرأس فانه علق هناك لما عبروا بالسبي الى الشام.
قال الشيخ المحدث الجليل الشيخ عباس القمي في نفس المهموم شاهدت هذا الحجر عند سفري إلى الحج, وسمعت الخدم يتحدثون بذلك.
دخول سبايا آل الرسول الشام
وفي أول يوم من صفر دخلوا دمشق فاوقفوهم على باب الساعات وقد خرج الناس بالدفوف والبوقات وهم في فرح وسرور ودنا رجل من “سكينة” وقال: من أي السبايا انتم؟ قالت: نحن سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان يزيد جالساً في منظره على “جيرون” ولما رأى السبايا والرؤوس على أطراف الرماح وقد اشرفوا على ثنية جيرون نعب غراب فأنشأ يزيد يقول:
لـما بـدت تلك الحمول وأشرقت تلك الرؤوس على شفا جيرون
نـعب الغراب فقلت قل او لا تقل فـقد اقتضيت من الرسول ديوني
ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال السيوطي بكفره ولعنه وفسقه لأنه تجاوز الحدود الشرعية وقتل أطهر وأشرف ذرية.
مارآه الصحابي سهل في الشام
لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوة.
وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه، فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت لهم: ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟ نراك يا شيخ غريباً؟ أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله. يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها.
وما ذاك؟ هذا رأس الحسين يُهدي من أرض العراق. واعجباً، يهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟ وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء، وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: من أنت؟ “أنا سكينة بنت الحسين”.
ألك حاجة؟ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله. (قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء، كان سهل بن سعد الساعدي من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن شيعة علي، عاش حتى عام 88هـ, كان عمره حين وفاته 96 أو مائة سنة..
الشيخ ضحية الإعلام الأموي
وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين فرفع عقيرته قائلاً: الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.
وبصر به الإمام فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُموية فقال له: (يا شيخ، أقرأت القرآن؟).
فبهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى.
أقرأت قوله تعالى: ﴿قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربى﴾؟.
وبهر الشيخ وتهافت فقال:
نعم، قرأت ذلك.
فقال له الإمام: “نحن والله القربى في هذه الآيات.. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾؟”.
قال: بلى. (نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير).
ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام بنبرات مرتعشة:
بالله عليكم أنتم هم؟ (وحق جدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّا لنحن هم من غير شكّ..).
وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممّن قتلكم. وطلب من الإمام أن يمنحه العفو والرضا فعفا الإمام عنه..