النبي محمد (صلى الله عليه وآله): رسول الرحمة والإنسانية
قال الله تعالى في كتابه الكريم واصفاً رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
من مقتضيات الحكمة الإلهية تجاه البشر أن يُعيّن اللهُ تعالى الإنسانَ في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خُلق من أجله، وإلّا انتَقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي الإلهي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.
ولا يمكن لربوبية الله تعالى ذاتِ الرحمة العامة والخاصة أن تَترك الإنسان وحيداً في طريق سعادته المليئة بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا يرسل إليه قائداً ومرشداً يَحمِل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإنّ حكمته ورحمته توجبان إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
وفي هذا السياق كانت الرسالة الخاتمة والبعثة الشريفة لنبي الرحمة والهدى محمد بنِ عبد الله (صلى الله عليه وآله)، والتي كان عنوانها العام في الرؤية القرآنية لبيان هدف البعثة هو “الرحمة للعالَمين”.
رحمة للمؤمنين أم للعالمين
كما أنّ الرحمة الإلهية شاملة لجميع بني البشر، المؤمن منهم وغير المؤمن، كما هو المدلول الواضح لقوله تعالى: “الرحمن الرحيم”، فكذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هو رحمة للعالمين بمقتضى الآية الكريمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
فهو ليس رحمة لأهل مكّة أو أهل المدينة فقط، وليس رحمة للمسلمين الذين كانوا معه، ولا للمسلمين عامة، وإنّما هو بنصّ الآية القرآنية رحمةٌ للعالمين جميعاً، في الدنيا والآخرة.
وفي بعض أوصافه أنه (صلى الله عليه وآله) أمان لأهل الأرض من العذاب، فقد ورد في النهج الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: “كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفع فهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمّا الأمان الباقي فالاستغفار”.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فهو (صلى الله عليه وآله) قد اختُصَّ بهذه الكرامة أنّه أمان لأهل الأرض، فرَفع اللهُ سبحانه العذاب، أي عذاب الاستئصال عن أمّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببركة وجوده، بينما كانت الأمم السابقة مهدّدة ومعذّبة بهذا العذاب.
وقد حدّثنا القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته عن العذاب الذي حلّ بأقوامٍ وأممٍ سابقين نتيجة عنادِهم وكفرهم وطغيانهم، وكيف أنه سبحانه وتعالى أفناهم وأبادهم مِثْلَ قوم صالح وقوم ثمود، وكيف عذّب الآخرين بمسخهم قردةً وخنازيرَ وغيرَ ذلك.
إلّا أنه يُطرح سؤال وهو أننا نقرأ بعض الآيات القرآنية فنلاحظ أنها وصفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه رحمةٌ للمؤمنين، فكيف يمكن الجمع بين هذين الوصفين المختلفين؟
ومن الآيات الكريمة التي وصفته بأنه (صلى الله عليه وآله) رحمة للمؤمنين، قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾.
ومما ورد في شأن نزول هذه الآية أنّ جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النبي (صلى الله عليه وآله) بسوء، فنهاهم أحدُهم وقال: لا تتحدّثوا بهذا الحديث لئلّا يَصِلَ إلى سمع محمد فيذكرنا بسوء ويؤلّب الناس علينا، فقال له أحدهم: لا يهمنا ذلك، فنحن نقول ما نريد، وإذا بلغه ما نقول سنحضر عنده ونُنكر ما قلناه، وسيَقبل ذلك منّا فإنّه سريع التصديق لما يقال له، ويَقبل كل ما يقال من كل أحد، فهو أُذُن، فنزلت الآية وأجابتهم.
ومراده من ذلك أنه (صلى الله عليه وآله) يصدّق كل ما يقال له سريعاً.
والجواب عن السؤال المتقدم هو أنّ للرحمة درجاتٍ ومراتبَ متعدّدة، فإحداها مرتبة (القابلية والاستعداد)، والأخرى (الفعلية).
فمثلاً: المطر رحمة إلهية، أي أنّ هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات المطر، فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة، لأنّه مِن المسلّم أنّ آثار هذه الرحمة لا تَظهر إلّا في الأراضي المستعِدّة، وعلى هذا يصحّ قولنا: إنّ جميع قطرات المطر رحمة، كما يصح قولنا: إنّ هذه القطرات أساس الرحمة في الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبّل هذه الرحمة، فالجملة الأولى إشارة إلى مرحلة (الاقتصاد والقابلية)، والجملة الثانية إشارة إلى مرحلة (الوجود والفعل)، وعلى هذا فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أساسُ الرحمة لكل العالمين بالقوة، أمّا بالفعل فهو مختصّ بالمؤمنين، فالمؤمن يملك كل الاستعدادات والقابليات، وهو بالفعل موضعُ قَبولٍ لرحمة النبي (صلى الله عليه وآله).
أما غير المؤمن فإنه من خلال كفره وعناده يَمنع هذه الرحمة من الوصول إليه، وبالتالي يَحرُم نفسه من خيراتها وثمراتها.
رحمة الشفاعة
إنّ الإنسان المؤمن يطمع ويتطلّع إلى مظاهر الرحمة النبوية ليس في عالم الدنيا فحسب، بل نظره الأساس إلى عالم الآخرة حيث الحاجة الماسّة إلى هذه الرحمة.
وفي ذلك اليوم الموعود المشهود تُظلِّل المؤمنينَ هذه الرحمةُ النبوية الواسعة، والتي تتجلّى في شفاعته (صلى الله عليه وآله).
فقد سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام) عن شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة، فقال (عليه السلام): “يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون: اِنطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا عند ربه، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا عند ربّك، فيقول: إنّ لي ذنباً وخطيئة فعليكم بنوح، فيأتون نوحاً فيردّهم إلى مَن يليه، ويردّهم كلّ نبيّ إلى مَن يليه حتى ينتهون إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمّد رسول الله، فيَعرِضون أنفسهم عليه ويسألونه فيقول: انطلقوا، فينطلق بهم إلى باب الجنة، ويستقبل بابَ الرحمن ويخرّ ساجداً، فيمكث ما شاء، فيقول الله عزّ وجلّ: ارفع رأسك واشفع تُشَفَّعْ وسَلْ تُعطَ، وذلك قوله تعالى: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا5﴾.
مظاهر الرحمة النبوية
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع أقواله وأفعاله، ومن سيرته العطرة يمثّل الرحمة ويجسّدها قولاً وعملاً.
ولا يمكن لهذه الكلمات أن تختصر لنا مظاهر الرحمة النبوية في جميع جوانبها.
ولكن كنموذجٍ ومثالٍ على ذلك، فإنّ صلواتِ الله وسلامَه عليه دعا إلى الاهتمام بشؤون الناس ولا سيما المحتاجين، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم”.
وقال (صلى الله عليه وآله): “الخَلْقُ عيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله مَن نَفع عيالَ الله، وأدخل على بيتٍ سروراً”.
ودعا إلى احترام الإنسان وعدم إهانته، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): “قال الله عزّ وجلّ: مَن أهان لي ولياً، فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبَّ إليّ ممّا افترضتُ عليه، وإنّه لَيتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت عبدي المؤمن، يَكره الموتَ وأنا أكره مساءَته”.
هذه بعض نماذج الرحمة والإنسانية في رسالة نبيّنا الأعظم محمد بنِ عبد الله (صلى الله عليه وآله) والتي هي منافعُ للإنسان المخلوق المحتاج، فعسى أن تكون موعظة لنا في سلوك نهجه واتّباع طريقه، والعمل لطاعته، لأنّ طاعته هي من طاعة الله تبارك وتعالى.