ازدهرت حياة الاُسرة النبوية بالسبطين الكريمين الإمامين: الحسن والحسين عليهما السّلام، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم، الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه، وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول صلّى الله عليه وآله مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.
لقد كان النبي صلّى الله عليه وآله يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول: هما ريحانتي من الدنيا.
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: صَدَقَ الله إذ يقول: واعلموا أما أموالكم وأولادكم فتنة، لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة عليها السّلام: ادعى ابني فيشمّهما، ويضمّهما إليه.
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبوية وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول صلّى الله عليه وآله عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة عليها السّلام حملٌ، فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أمّا ذلك الحمل فهو:
الوليدة المباركة
ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.
لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: الله أكبر، لا إله إلاّ الله وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.
وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.
وجوم النبي وبكاؤه
وحينما علم النبي صلّى الله عليه وآله بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة عليها السّلام من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً، فأجابها بصوت حزين النبرات: يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا.
لقد استشف النبي صلّى الله عليه وآله ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء.
ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبوية يهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.
تسميتها
وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:سمّ هذه المولودة.
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: ما كنت لأسبق رسول الله.
وعرض الإمام على النبي صلّى الله عليه وآله أن يسمّيها، فقال: ما كنت لأسبق ربّي.
وهبط رسول السماء على النبي، فقال له: سمّ هذه المولودة زينب، فقد اختار الله لها هذا الاسم.
وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء.
كنيتها
وكنيت الصدّيقة الطاهرة زينب بـاُمّ كلثوم، وقيل: إنها تكنى بـاُمّ الحسن.
ألقابها
أما ألقابها فإنّها تنمّ عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة وهي:
-عقيلة بني هاشم: والعقيلة هي المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها، والسيّدة زينب أفضل امرأة، وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذرّيتها فكانوا يلقّبون بـبني العقيلة.
-العالمة: وحفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله من السيّدات العالمات في الاُسرة النبوية، فكانت فيما يقول بعض المؤرخين: مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين يرجعن إليها في شؤونهن الدينية.
-عابدة آل عليّ: وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل الإسلامية إلاّ أتت بها، ويقول بعض الرواة: إنها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرم.
-الكاملة: وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها وطهارتها من الرجس والزيغ.
-الفاضلة: وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله، وهذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.
سنة ولادتها
أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:
1 – السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الاُولى.
2 – السنة السادسة من الهجرة.
3 – السنة التاسعة من الهجرة، وفنّد هذا القول الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح لأنّ فاطمة عليها السّلام توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم، ومتى حملت بالمحسن أسقطته لستة أشهر، وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وذكر مؤيدات اُخرى لما ذهب إليه.
نشأتها
نشأت الصدِّيقة الطاهرة زينب عليها السّلام في بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد غذّتها اُمها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مثلها وقيمها حتى صارت صورة صادقة عنها.
لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين عليها السّلام يشارك اُمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أية كلمة من مرّ القول وهجره، وشاهدت جدّها الرسول صلّى الله عليه وآله يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام، فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.
لقد ظفرت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلامية، فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين يعظّم أخاه الإمام الحسن عليه السّلام ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه ولم يجلس إلى جانبه، وشاهدت أخوتها من أبيها، وهم يعظمون أخويها الحسن والحسين، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذات موضع احترام اخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين عليه السّلام قام لها إجلالاً وإكباراً وأجلسها في مكانه، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسنعليه السّلام عن ذلك، فقال له: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك الحوراء.
لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وأخوتها، فهي حفيدة النبي صلّى الله عليه وآله، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في أيام الحكم الاُموي، يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: روى أبو الحسنين، وذلك اشاده بفضلها وعظيم منزلتها.
قدراتها العلمية
كانت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقريتها، فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول صلّى الله عليه وآله فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة عليها السّلام في الجامع النبوي احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـفدك التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد روت خطبة اًمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.
قد بهر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من شدّة ذكائها، فقد قالت له: أتحبّنا يا أبتاه.
فأسرع الإمام قائلاً: وكيف لا اُحبكم وأنتم ثمرة فؤادي.
فأجابته بأدبٍ واحترامٍ: يا ابتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا.
وعجب الإمام عليه السّلام من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى، وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك.
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية، ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين عليه السّلام يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين، ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات فكانت تلقي عليهن محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذن منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه، ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي، وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة عليها السّلام في جامع أبيها صلّى الله عليه وآله، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدينعليه السّلام في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعية، وقد قال عليه السّلام في حقها:
إنها عالمة غير معلّمة، وكانت ألمع خطيبة في الإسلام، فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.
لقد نشأت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجل العالمات، ومن أكثرهن إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.
اقترانها بابن عمها
ولما تقدّمت سيدة النساء زينب في السنّ انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها، والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه: عبد الله بن جعفر، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به، ونعرض – بإيجاز- إلى بعض شؤونه.
أبوه جعفر: أما جعفر فقد كان – فيما يقول الرواة -: من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي صلّى الله عليه وآله، يقول فيه أبو هريرة: (ما احتذى النعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله أفضل من جعفر بن أبي طالب)، وهو من السابقين للإسلام وقد رآه أبوه طالب يصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام خلف النبي صلّى الله عليه وآله فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره، وكان علي يصلّي عن يمينه، وله هجرتان إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة.
وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته حتى كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها.
وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة فاستبشر به رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفرح فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال صلّى الله عليه وآله: ما أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر.
واختطّ له النبي صلّى الله عليه وآله داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده، لا لأنه ابن عمه فحسب، وإنما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه.
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها، ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وإن الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
ولهذا لقّب بـذي الجناحين وبـالطيار.
وحزن رسول الله صلّى الله عليه وآله على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصائبهم الأليم، فقال لزوجته أسماء: ائتيني ببني جعفر، فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها فقالت له:يا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء.
فأجابها بنبراتٍ تقطرأسىً وحزناً قائلاً:نعم اُصيب هذا اليوم.
وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي صلّى الله عليه وآله أن يصنع طعام لآل جعفر، وأقبلت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة: وا عماه.
وطفق رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: على مثل جعفر فلتبك البواكي.
لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي صلّى الله عليه وآله، فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.