لقد فتحت السيدة فاطمة الزهراء عينها في وجه الحياة، وفي وجه أبيها الرسول ترتضع من أمِّها السيدة خديجة اللبن المزيج بالفضائل والكمال.
وكانت تنمو في بيت الوحي نموًّا متزايداً، وتنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، يزقّها أبوها الرسول صلى الله عليه وآله العلوم الإلهية، ويفيض عليها المعارف الربانية، ويعلّمها أحسن دروس التوحيد، وأرقى علوم الإيمان وأجمل حقائق الإسلام.
ويربّيها أفضل تربية وأحسنها، إذ وجد الرسول في ابنته المثالية كامل الاستعداد لقبول العلوم ووعيها، ووجد في نفسها الشريفة الطيبة كل الروحانية والنورانية، والتهيؤ لصعود مدارج الكمال.
إلى جانب هذا شاءت الحكمة الإلهية للسيدة فاطمة الزهراء أن تكون حياتها ممزوجة بالمكاره، مشفوعة بالآلام والمآسي منذ صغر سنّها، فإنها فتحت عينها في وجه الحياة وإذا بها ترى أباها خائفاً، يحاربه الأقربون والأبعدون ويناوئه الكفّار والمشركون.
فربما حضرت فاطمة في المسجد الحرام فرأت أباها جالساً في حِجر إسماعيل عليه السلام يتلو القرآن، وترى بعض المشركين يوصلون إليه أنواع الأذى، ويحاربونه محاربة نفسية.
وحضرت يوماً فنظرت إلى بعض المشركين وهو يُفرغ سلا الناقة، هو الكيس الذي يتكون فيه الجنين على ظهر أبيها الرسول وهو ساجد.
كانت الزهراء تشاهد ذلك المنظر المؤلم، وتمسح ذلك عن ظهر أبيها وثيابه وتوسعهم سباً وشتماً، وهم يضحكون من سبابها وشتائمها، شأن السفلة الأوباش.
وعن ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزّى ومناة: لو رأينا محمداً لقمنا مقام رجل واحد، ولنقتلنّه، فدخلت فاطمة عليها السلام على النبي صلى الله عليه وآله باكية، وحكت مقالهم.. الخ.
واشتدت الأزمة وزادت المحنة حتى اضطر الرسول صلى الله عليه وآله أن يختفي في شعب أبي طالب، ورافقته عائلته، وآل أبي طالب إلى ذلك المكان، وكانوا يعيشون في جو من الإرهاب والإرعاب.
ففي كل ليلة يتوقعون هجوم المشركين عليهم وخاصة بعد أن كتب المشركون الصحيفة القاطعة، وحاصروا بني هاشم حصاراً اقتصادياً فلا يدعونهم يبيعون ولا يشترون شيئاً حتى المواد الغذائية، بل ومنعوا إيصال الطعام إليهم، فاستولى الجوع عليهم، وأثَّر في الأطفال أكثر وأكثر، فلا عجب إذا كانت أصوات بكاء الأطفال تصل إلى مسامع أهل مكة، فبين شامت بهم مسرور، وبين متألِّم حزين.
وطالت المدة ثلاث سنين وشهوراً، وكانت السيدة فاطمة من الذين شملتهم هذه المأساة، وهذه المآسي أيقظت في السيدة فاطمة روح الجهاد والاستقامة والمثابرة، وكأنها كانت فترة التمرين والتدريب للمستقبل القريب.
ومما كان يهوِّن الخطب، ويجبر خاطر السيدة فاطمة الزهراء ويقرّ عينها أنها كانت ترى البطل الشهم أبا طالب يقف ذلك الموقف المشرِّف في نصرة أبيها الرسول فكان تارة يحمل سيفه ويرافقه أخوه حمزة ويمشيان خلف الرسول نحو المسجد الحرام ليعلن مؤازرته ومناصرته للرسول، وكأنهما جنديان مسلحان في حالة الإنذار، وربما انضمّ إلى أبي طالب بعض عبيده ومواليه يمشون خلف الرسول وكأنهم مفرزة عسكرية أو سرية جيش.
وتارة أخرى كان يصرّح بتجاوبه وانحيازه إلى الرسول، فكان بعلن إسلامه إظهاراً للحقيقة، فينظم القصائد التي كان لها أحسن أثر في ذلك اليوم في دعم الرسول صلى الله عليه وآله، ومنها: ما رواه الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا دفاع أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله اجتمعوا إليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالاً وجوداً وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرّق جماعتنا، وسفّه أحلامنا فنقتله!!.
فقال أبو طالب: ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلونه؟ بل، فليأت كل امرئ بولده فأقتله، وقال:
منعنا الرسول رسول المليك ببيـــض تلألأ كلمع البروق
أذود وأحمي رسول المـليك حـمـــــــاية حام عليه شفيق
وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تحصى فمن ذلك قوله:
ألم تعلمـــــوا أنـــــــا وجدنا محمد نبياً كمــــوسى خطَّ في أول الكتب؟
أليس أبونا هاشــــــــم شـــــدَّ أزره وأوصى بنــــيه بالطعان وبالحرب؟
وقوله من قصيدة:
وقالوا لأحــــمد: أنت امـرؤ خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا: إن أحــــــمد قد جـاءهم بحـــــــق، ولــم يأتهم بالكذب
وقوله في حديث الصحيفة، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله:
وقد كـــــان أمـــــر الصحيفة عبرة متى مـــــا يخبِّر غائب القوم يعجبِ
محا الله منها كـــــــفرهم وعقوقهم وما نقمـــوا من ناطق الحق معربِ
وأمسى ابن عـــــبد الله فينا مصدِّق على سخــــط من قومنا غير معتب
وقوله من قصيدة يخصّ أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته:
صبراً أبا يعــــــــلي على دين أحمد وكن مظــــــهراً للدين وُفّقت صابرا
فقد سرني إذ قلــــــت أنـــك مؤمن فكـن لرســــــول الله فــي الله ناصراً
وقوله يحض النجاشي ملك الحبشة على نصر النبي:
تعلَّم1 مليك الحبش أن محمد وزير كموسى والمسيح ابن مريم
أتــــــى بهــــــدىً مثل الذي أتيا به وكلّ بأمــــــر الله يهـــــدي ويعصم
وإنكم تتــــــــلونه فـــــــي كــتابكم بصــــــدق حديث، لا حديث المرجّم
فلا تجعــــــلوا لله نداً، وأســـــلمو وإن طريق الحــــــــــق ليس بمظلم
وقال أيضاً:
لقد أكـــــــرم الله النــــــــبي محمد فأكـــــــرم خلق الله في الناس أحمد
وشقّ له من اســــــــمه ليــــــجلّه فذو العرش محمود، وهذا محمد.
وقال أيضاً:
كذبـــتم وبيـــــــتِ الله نبزي محمد ولمـــــــا نطـــــاعن دونه ونناضلِ
ونُسلــــــمه حتـــــى نُصـرَّع حوله ونذهـــــل عـــــــن أبـنائنا والحلائل
وأبيض يستسقى الغـــــمام بوجهه ثمــــــال اليــــتامى عصمة للأرامل
يلــــــوذ بــــه الهَّلاك من آل هاشم فهـــــم عنـــده في رحــمة وفواضل
ألم تعلــــــموا أن ابــــــننا لا مكذَّب لدينا، ولا نعــــــــبأ بقـــول الأباطل
فأيَّــده ربّ العــــــــباد بنـــــــصره وأظـــــــهر ديناً حــــــقـه غير باطل
أُقيمُ علـــــى نصـــــــر النبي محمد أُقاتـــــــل عنه بالقــنا والقنابل.
إلى غير ذلك من مواقفه وتصريحاته ومساندته للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ولولا إيمانه بالله واعتقاده بالإسلام لما قام تلك المواقف، ولما غامَرَ بنفسه وبأولاده في سبيل نصرة النبي وتقوية دينه.
ولم يكن ذلك التفادي والمخاطرة بدافع القرابة، فلقد كان للرسول ثمانية أعمام غير أبي طالب فلماذا لم يسجِّل التاريخ لهم تلك المواقف المشرِّفة، بل سجل التاريخ عن بعض أعمام النبي مواقف مخزية كمواقف عمِّه أبي لهب.
وَفَاةُ السَيِّدَةِ خَديجَة الكُبْرى
كانت الأعوام تَمُرّ، والسنوات تنقضي، وحياة الزهراء مشفوعة بالحوادث والمآسي، وقد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة وإذا بفاجعة تطلُّ على حياتها، وتخيِّم الهموم وتتراكم الأحزان على قلبها، وهي وفاة أُمها السيدة خديجة، تلك الأُم البارَّة الحنون التي كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة فاطمة العزيزة نظرة حزن وتألم وتأثر لأنها تعلم أن الزهراء ستفجع بأُمها العطوفة الرؤوفة.
كانت السيدة خديجة طريحة الفراش، وقد خيَّم عليها شبح الموت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وهي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منَّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهن السلام! قالت: من هنَّ يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله: مريم بنت عمران، وكلثم أُخت موسى، وآسية امرأة فرعون، فقالت: بالرفاء يا رسول الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أُمرت أن أُبشِّر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
قال ابن الأثير في النهاية: القصب- في هذا الحديث-: لؤلؤ مجوَّف واسع كالقصر المنيف. والصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام.
كانت السيدة خديجة تتأوه وتبكي فقالت لها أسماء بنت عميس: أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين؟ وأنت زوجة النبي؟ مبشَّرة على لسانه بالجنة؟ فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بدَّ لها من امرأة تفضي إليها بسرِّها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ!
فقالت أسماء: يا سيدتي لك عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر.. إلخ.
وفارقت السيدة خديجة الحياة، وعمرها ثلاث وستون سنة على قول فكانت وفاتها ضربة مؤلمة على قلب الرسول، وخاصة وأن النبي قد فجع بعمِّه أبي طالب بعد أيام أو شهور من وفاة السيدة خديجة فازداد حزناً، حتى سمَّى تلك السنة عام الحزن لأنه أصيب بمصيبتين عظيمتين على قلبه البار:
مصيبة زوجته خديجة، لا لأنها زوجته فقط، بل لأنها أَول من صدَّقته بالنبوة، ولأنها كانت زوجة ومعاضدة ومساعدة ومحامية لزوجها، لأنها وهبت الآلاف المؤلفة من أموالها في سبيل الإسلام، ولأنها كانت تحمل شخصية فريدة من نوعها في مكة، بل في نساء العرب.
ودُفنت في الحَجون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله في قبرها، وكانت السيدة فاطمة عليها السلام تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وتدور حوله وتسأله: يا رسول الله أين أُمي؟ فجعل النبي لا يجيبها، وهي تدور على من تسأله، فهبط عليه جبرئيل فقال: إن ربك يأْمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: أُمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وأعمدته من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران فقالت فاطمة: إن الله هو السلام ومنه السلام، وإليه يعود السلام.
والمصيبة الأخرى مصيبة عمِّه أبي طالب الذي كفل النبي من يوم وفاة جده عبد المطلب، وهو ابن ثمان سنوات، واستمرت الكفالة حتى بلغ النبي من العمر ثلاثاً وخمسين سنة، وهي السنة التي مات فيها أبو طالب.
ولأبي طالب حقوق وخدمات ومواقف تجاه النبي طيلة هذه السنوات تعتبر في قمة فضائله وفواضله، ولولاه لمات الدين الإسلامي وهو في المهد:
ولولا أبـــــو طــــالب وابنه لَما مَثُل الـدين شخصاً فقاما
فهذا بمــــــكة آوى وحــام وهذا بيـــثرب جسَّ الحِماما
ولله ذا فاتــــــحاً للــــــهدى ولله ذا للمــــــعالي خــــتاما
وكان لهاتين الفاجعتين أكبر الأثر في حياة الرسول وتغيير مجراها، لولا موت أبي طالب لما هاجر من مكة، لأنَّه حينذاك شعر بفقدان الناصر والكفيل والمحامي ولم يكن في أعمامه مَن يقوم مقام أبي طالب حتى عمه حمزة يومذاك.
وقد رثاه ابنه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بأبيات:
أبا طالـــــــب عصــــــمة المستجير وعيـــث المحـــــــــول ونور الظُّلَم
لقد هدَّ فقــــدك أهـــــــل الحـــــفاظ فـصلَّى عليك ولــــــــــي النـــــــــعم
ولقَّــــــــــاك ربــــــك رضــــــوانه فقـد كنـــــت للطهر من خير عم6
فَاطِمَةُ الزّهْرَاء عليها السلام والهِجْرَة
ولما أصيب رسول الله صلى الله عليه وآله بوفاة السيدة خديجة وعمه أبي طالب عزم على الهجرة من مكة، وأمر عليّاً أن يبيت على فراشه تلك الليلة، وسُمّيت تلك الليلة: ليلة المبيت وهي الليلة التي اجتمع فيها حوالي أربعين أو أربعة عشر رجلاُ من المشركين، وطوَّقوا بيت الرسول، وهم يريدون الهجوم على النبي ليقتلوه في بيته، فخرج النبي إلى الغار، وبقيت السيدة فاطمة في البيت، وهي تتوقع هجوم الأعداء على دارها في كل ساعة وتستمع إلى هتافات الكفر والإلحاد ضد الرسول، ويعلم الله مدى الخوف والقلق المسيطر عليها طيلة تلك الليلة، وهي تعلم خشونة طباع المشركين وقساوة قلوبهم، فيكون أسوأ الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات.
وإلى أن الصباح من تلك الليلة، وهجم القوم في الدار شاهرين سيوفهم كأنهم ذئاب ضارية أو كلاب مستسبعة تطلب فريستها، وقصدوا نحو فراش النبي فلم يجدوه بل وجودوا عليّاً عليه السلام راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول الله صلى الله عليه وآله فخابت ظنونهم، وخرجوا من الدار فاشلين، وكادوا أن يتفجَّروا حقداً وغيظاً وغضباً، فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات وأكثرها خوفاً وفزعاً على قلب السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
ويا ليت الأمر كان ينتهي هنا، ولكن أحقاد الكفر كانت كامنة في الصدور كأنها جمرة تحت رماد، ولما خرج أمير المؤمنين عليه السلام بالفواطم من مكة وهُنَّ: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، واعترضهم في أثناء الطريق للحيلولة دون الهجرة، وكان الموقف حرجاً، واستولى الرعب والفزع على قلوب الفواطم من الأعداء، وكادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة الإمام علي وبطولته المشهورة، وكفاهم الله شر الأعداء، ونجى علي والفواطم بقدرة الله تعالى.
وصلت الفواطم إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد سبقهم إليها، وكان ينتظرهم، ولما وصلوا دخل النبي المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، والتحقت به ابنته فاطمة الزهراء، ونزلت على أُم أبي أيوب الأنصاري.
كانت السيدة الزهراء تعيش تحت ظل والدها الرسول في المدينة بعد أن مرَّت بها عواصف شديدة وحوادث مؤلمة، من موت أُمها خديجة وهجرة أبيها الرسول من وطنه ومسقط رأْسه، وهجوم الأعداء على الدار، وهجرتها من مكة إلى المدينة، ومطاردة الأعداء لها، فهل انتهت تلك الحوادث والمصائب؟
كلا، بل كانت تلك القضايا بداية مآسي أخرى، وكوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة على الهجرة وإذا بالمشركين يجتمعون في مكة ويقصدون التوجه إلى المدينة لمحاربة الرسول والمسلمين، فنول جبرئيل وأخبر النبي بالمؤامرة، وخرج الرسول بالمسلمين من أهل المدينة وبمن التحق به من المهاجرين من أهل مكة، خرج بهم ليستقبل العدو في أثناء الطريق قبل وصولهم المدينة، فوصلوا إلى منطقة بين المدينة ومكة يقال لها: بدر.
وهناك التقوا بالمشركين، وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن كانت الغلبة والانتصار للمسلمين والهزيمة والاندحار للمشركين، فرجع النبي إلى المدينة مظفَّراً منصوراً.
فَاطِمَةُ الزّهْرَاءُ عليها السلام يَوْم أُحُد
وبعد سنة واحدة وشهر وقعت غزوة أُحد، وقُتل فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله سبعون رجلاً كانوا هم الصفوة والزبدة من أصحابه، وفي طليعتهم عمّه سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وأُصيب رسول الله صلى الله عليه وآله بحجر انكسرت منه جبهته الشريفة، وحجر أصاب فمه الطاهر وانكسرت منه ثناياه، وتخثَّر الدم على لحيته كأنه حِنّاء أو خضاب.
وفي تلك الآونة صاح إبليس صيحة سمعها المسلمون في أُحد، وسمعها أهل المدينة، صاح: قُتل محمد.
اضطربت القلوب في جبهة القتال، وانهزم المنهزمون، وثبت المؤمنون حقاً، ولم يكن اضطراب العوائل في المدينة بأقل من اضطراب المسلمين في ساحة القتال.
وقد خرجت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي وفاطمة الزهراء إلى أحد، فصاحت فاطمة، ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ، وخرجت كل هاشمية وقريشية، واضعة يدها على رأسها.
وكان وصول فاطمة الزهراء وصفية إلى أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن قُتل من قُتِل، وجُرحَ من جُرح، وكان النبي يتفقد القتلى ويبحث عن المفقودين من أصحابه.
وهو إذ ذاك قد وصل إلى مصرع حمزة، فوجده بحالة لا توصف، فقد مثّلوا به أقبح وأبشع مُثلة، فقد قطعوا أصابع يديه ورجليه، وجدعوا أنفه وأذنيه وشقّوا بطنه، وأخرجوا كبده، وقطعوا عورته، وتركوه بهذه الحالة.
كان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً ومخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نكاية وتنكيل من المشركين لعمِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وناصره والمدافع عنه.
كان الحزن والغيظ قد أخذ من الرسول كل مأْخذ، فبينما هو كذلك وإذا به يرى عمَّته صفية وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلك المنطقة، فغطى الرسول جثمان حمزة بردائه، وستَرَه من القرن إلى القدم كي لا يُرى شيء من مواضع المثلة.
وأقبلت صفية وفاطمة تعدُوان، وجلستا عند مصرع حمزة، وشرعتا بالبكاء والنحيب، ورسول الله يساعدهما على البكاء، ويشاركهما في الأنين والنحيب، ثم نظرت فاطمة إلى جراحة جبهة الرسول، وإلى الدماء المتخثرة على وجهه الطاهر ولحيته الشريفة، فصاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتدّ غضب الله على من أَدمى وجه رسول الله.
فغسلت الدماء عن وجه أبيها، وكان علي يصبّ الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أنَّ الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة عمدت إلى قطعة حصيرة فأحرقتها، وجعلت رمادها ضماداً على جبهة أبيها، وألزمته الجرح، فاستمسك الدم.
أترى كيف انقضت تلك الساعات على قلب فاطمة؟ فقد تداخلها الحزن العظيم والخوف الشديد وهي البنت البارَّة بأبيها، العارفة بحقه.
ولما رجع علي عليه السلام من أُحد ناولَ فاطمة سيفه، وقال: خذي هذا السيف، فلقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:
أفاطــــــم هـــــاكِ السيف غير ذميمِ فلســـــــتُ برعــــــــديدٍ، ولا بلئيم
لعمري لقد أعــذرتُ في نصر أحمد وطاعة ربٌ بالـــــــــعباد علــــــــيم
أُريد ثـــــواب الله لا شــــيء غيره ورضوانــه فــــــــي جـــــــنة ونعيم
وكنتُ امرأً يسمو إذ الحرب شمُّرت وقامــــــت علـــــى ساق بغير مليم
أممت بن عبد الدار حـــــتى جرحته بذي رونـــــق يفري العظام صميم
فغادرته بالقاع فارفــضَّ جـــــــمعه عباديد مــــــــما قانــــــــــط وكليم
وسيفي بكفّــــي كالشـــــهاب أهزُّه أحزُّ به من عاتــــــــقِ وصـــــــميم
فما زلت حتــى فضَّ ربي جموعهم وأشفــــــيت منـــهم صدر كل حليم
أَميطي دمــــــاء القـــــوم عنه فإنه سقى آل عـــــــبد الدار كأْس حميم
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: خذيه يا فاطمة فقد أدَّى بعلك ما عليه، قتل الله صناديد قريش بيديه.
لقد مرَّ عليك أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام حضرت في أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ولما نظرت إلى جراحة أبيها غسلت الدماء بالماء، وأحرقت قطعة حصيرة وجعلت رمادها على جبهة أبيها الرسول.
هذه الواقعة كما ذكرها المؤرخون، ولكن في زماننا- هذا- جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحة لمسرحياتهم الشاذة، فكتبوا بكل إصرار وإلحاح وتكرار أن فاطمة كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد الجرحى، وتداويهم وتسعفهم!!!
أنا ما أدري ما يقصد هؤلاء الشواذ من اختلاق هذه الأكذوبة؟
إذا قامت سيدة بتضميد جراحة أبيها فقط وفقط في العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل يقال عنها: أنها كانت تحضر جبهات القتال وتضمد الجرحى وتداويهم؟؟
أنا ما أدري ما هدف هؤلاء من ترويج هذا الباطل وإشاعة هذا الافتراء؟
هل يريدون المسَّ بقدسيَّة السيدة فاطمة الزهراء ونزاهتها؟
أم يريدون فتح الطريق للاختلاط بين الجنسين.
ولنفرض أن نسيبة بنت كعب حضرت يوم أُحد لتضميد الجرحى فهل معنى ذلك أن نعتبر السيدة فاطمة الزهراء وهي سيدة نساء العالمين في العفاف والحياء والحشمة والنزاهة والعصمة نعتبرها كالموظفات في المستشفيات والمستوصفات ومؤسَّسات الإسعاف الدولية؟؟
أنا ما أدري ولعلهم يدرون ويعرفون ما يبرِّر لهم هذه الأكذوبة.
فَاطِمَةُ الزهْرَاءُ عليها السلام عَلَى أعتَابِ الزواج
كانت السيدة فاطمة الزهراء عليه السلام قد بلغت من العمر تسع سنوات، ولكنها كانت تتمتّع بالنمو الجسمي، بل الكمال الجسماني، وكانت تمتاز من صغر سنِّها بالنضج الفكري والرشد العقلي المبكر، وقد وهب الله لها العقل الكامل والذهن الوقاد، والذكاء الذي لا يوصف، ولها أوفر نصيب من الحس والجمال والملاحة، خلقةً ووارثة، فمواهبها كثيرة وفوق العادة وفضائلها الموروثة والمكتسبة تمتاز عن كل أنثى وعن كل ابن أنثى.
وأما ثقافتها الدينية والأدبية فحدِّث ولا حرج، وسيتضح لك أنها أعلم امرأة وأفضلها في العالم كله، ولم يشهد التاريخ امرأة حازت الثقافة والعلم والأدب بهذا المستوى، مع العلم أنها لم تدخل في مدرسة ولم تتخرج من كلية سوى مدرسة النبوة وكلية الوحي والرسالة.
فلا عجب إذا خطبها مشاهير أصحاب النبي، وكان النبي يعتذر إليهم ويقول: أمرها إلى ربها، إن شاء أن يزوِّجها زوَّجها.
وروى شعيب بن سعد المصري في الروض الفائق: فلما استنارت في سماء الرسالة شمس جمالها، وتم في أفق الجلالة بدر كمالها، امتدت إليها مطالع الأفكار وتمنّت النظر إلى حسنها أبصار الأخيار، وخطبها سادات المهاجرين والأنصار، ردَّهم المخصوص من الله بالرضا وقال: إني أنتظر بها القضاء.
وخطبها أبو بكر وعمر فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنها صغيرة8 وخطبها عبد الرحمن بن عوف، فلم يجبه النبي بل أعرض عنه.
بعد الانتباه إلى هذه الجملة وهي قوله صلى الله عليه وآله: أنها صغيرة يتضح لنا تزوير الأقوال المروية بولادتها قبل المبعث بخمس سنين، إذ لو كان الأمر هكذا لكان عمرها يومذاك ثمانية عشر سنة كيف تكون صغيرة؟ وقد تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وآله عائشة وعمرها على أكثر التقادير عشر سنوات، ولم يعتبرها الرسول صغيرة فكيف تكون ابنته الشابة صغيرة لا تصلح للزواج؟.
ثم لو كان الأمر كما يزعمون وإنها ولدت قبل المبعث بخمس سنين لكان عمرها يوم كانت في مكة- قبل الهجرة- بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، وهذه الفترة من العمر أحسن أوقات الزواج، فكيف لم يخطبها أحد في مكة، لا من بني هاشم ولا من غيرهم بل لم يُسمع أنها كانت في مظنة الخطبة والزواج؟؟.
وقد روى علي بن المتقي في كتابه: كنز العمال ج2 ص99 عن أنس بن مالك قال: جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقِدَمي في الإسلام وأني وأني.. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فسكت عنه أو قال: فأعرض عنه، فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكتُ وأهلكت. قال: وما ذاك قال: خطبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وآله فأعرض عني قال عمر: مكانك حتى آتي النبي فأطلب منه مثل الذي طلبت. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وآله فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقِدَمي في الإسلام وأني وأني.. قال: وما ذاك؟ قال: تزوجني فاطمة. فأعرض عنه، فرجع عمر إلى أبي بكر فقال: إنه ينتظر أمر الله فيها.
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد: أن كُلاً من أبي بكر وعمر أمر ابنته أن تخطب فاطمة من رسول الله، فذكرت كل واحدة منهما فاطمة لأبيها، فأجابها رسول الله: حتى ينزل القضاء، فتمنَّت كل واحدة منهما أنهما لم تكن ذكرت للنبي شيئاً.
ولعل الرسول ما يكن يحب أن يصارحهم بأنه يدخرها لكفوها، وما أحب أن يصارحهم بأنهم ليسوا بأكفاء لها أو يفاجئهم بأن مستوى ابنته فوق المستويات.
كان الرسول يرى أن تجري الأشياء على مجراها الطبيعي، وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد نزل في بيت سعد بن معاذ على قول منذ وصوله إلى المدينة، فجاء إليه سعد بن معاذ وهو في بعض بساتين المدينة وقال: ما يمنعك أن تخطب فاطمة من ابن عمك؟.
وفي منتخب العمال: انطلق عمر إلى علي رضي الله عنه فقال: ما يمنعك من فاطمة فقال: أخشى أن لا يزوِّجني! قال: فإن يزوِّجك فمن يزوج؟ وأنت أقرب خلق الله إليه.. إلخ.
إن علياً لم يذكر فاطمة طيلة حياته لأي أحد، ولم يذكر رغبته حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم ظروفه الاقتصادية يومذاك كانت قاسية جدّاً، فما كان يملك من حطام الدنيا أموالاً ولا يملك في المدينة داراً ولا عقاراً، فكيف يتزوج؟ وأين يتزوج؟ وأين يسكن؟
وليست السيدة الزهراء بالمرأة التي يستهان بها في زواجها!.
ولكن، لما كان المقصود من الزواج تشكيل البيت الزوجي وتأْسيس الصرح العائلي، ولم تكن قضية الجنس في طليعة الهدف بل كانت في ضمن الزواج فقد جاء الإسلام ليفتح الأغلال والتقاليد التي حبست على الناس سنّة الزواج، وشدّدت عليهم هذا الأمر الذي يعتبر من ضروريات الفطرة، ومن لوازم نظام البقاء والحياة الزوجية والعائلية.
فقد أصبح الزواج- بفضل الإسلام- أمراً سهلاً مستسهلاً، فالتعصب القِبَلي والعنصري قد أشرف على الزوال، وكان الرسول في دَور التكوين، وهو القدوة والأسوة للمسلمين، وحركاته وسكناته، وأعماله وأفعاله ستكون حجة ودليلاً عند المسلمين، فكان الرسول يحارب تقاليد الجاهلية وعادات الكفر باللسان واليد، قولاً وفعلاً.
فقد أتاه علي يخطب منه ابنته فاطمة، والنبي صلى الله عليه وآله له الولاية العامة على جميع المسلمين والمسلمات، وعلى ابنته ومن عداها، ولكنه صلى الله عليه وآله حفظ لفاطمة كرامتها، ولم يعلن موافقته للزواج قبل الاستئذان من فاطمة، وبعمله هذا أعلن أنه لابد من موافقة البنت لأنها هي التي تريد أن تعيش مع زوجها، وتكون شريكة حياته، ويكون شريك حياتها.
إن تزويج البنت بغير إذنها أو موافقتها إهدار لكرامتها وتحقير لنفسيتها، وتحطيم لشخصيتها، وتصريح عملي لها أنها لا يحق لها إبداء رأيها حول انتخاب الزوج فكأنها بهيمة أو داجنة تباع وتوهب بلا إذن منها أو موافقة.
فقال الرسول: يا علي قد ذكراها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رِسلك حتى أخرج إليك.
قام الرسول وترك علياً جالساً ينتظر النتيجة. ودخل على ابنته فاطمة، وأخبرها بأن علياً جاء يطلب يدها؛ ربما يحتاج الأب إلى أن يخبر ابنته عمن جاء يخطبها ويذكر لها أوصافه من حيث العمر والمهنة وبقية الخصوصيات إذا لم يكن معروفاً، لتكون البنت على علم وبصيرة.
ولكن هنا لا حاجة إلى ذلك، فعليّ عليه السلام أعرف من أن يعرّف، وفاطمة تعرف علياً وتعرف سوابقه ومواهبه وفضائله، ولا تجهل شيئاً. فاكتفي الرسول بأن قال: يا فاطمة إن علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته وفضله وإسلامه، وإني قد سألت ربي أن يزوِّجك خير خلقه، وأحبَّهم إليه، وقد ذكر عن أمرك شيئاً، فما ترين؟
فسكتت، ولم تولّ وجهها، ولم ير فيها رسول الله صلى الله عليه وآله كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر! سكوتها إقرارها.
اعتبر الرسول سكوتها موافقة ورضي منها على الزواج، إذ لا ينتظر من الفتاة البكر الحييّة ذات الحياء أن تصرّح بموافقتها، بل ينتظر منها التصريح بالمخالفة والرفض عند عدم الموافقة، لأن الحياء يمنع التصريح بالموافقة، ولا يمنع التصريح بالرفض.
ورجع النبي إلى علي وهو ينتظر، فأخبره بالموافقة، وسأله عن مدى استعداده لاتخاذ التدابير اللازمة لهذا الشأن، إذ لابد من الصداق ودويّ على مر الأجيال، فلابدّ من رعاية جميع جوانبه، ولا يصح إهمال أي ناحية منه مع رعاية البساطة:
فقال النبي لعلي: هل معك شيء أزوجك به؟
فقال علي: فداك أبي وأمي! والله لا يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي!!9.
هذه ثروة علي، وجميع ما يملكه من حطام الدنيا وهو مقبل على الزواج.
تلقّى كلامه برحابة صدر، وقال: يا علي! أما سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوجتك بالدرع ورضيت بها منك، بِع الدرع وائتني بثمنه!!
كان علي عليه السلام قد أصاب هذه الدرع من مغانم غزوة بدر كان كما ذكره العسقلاني في الإصابة ج4 ص365 وقد كان النبي أعطاه إياها، وكانت تسمَّى الحطمية لأنها كانت تحطِّم السيوف أي تكسِّرها، كما في لسان العرب.
باع علي عليه السلام الدرع بأربعمائة وثمانين أو بخمسمائة درهم، وجاء بالدراهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وطرحها بين يديه، وتمَّ الوفاق على أن يكون ثمن الدرع صداقاً لأشرف فتاة في العالم، وأفضل أنثى في الكون، وهي سيدة نساء العالمين، وبنت سيد الأنبياء والمرسلين وأشرف المخلوقين!!
زوَّج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنته الطاهرة من علي بن أبي طالب بهذه البساطة والسهولة ليفكِّك أغلال التقاليد التي قيَّد الناس بها أنفسهم، لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وآله ما صنع ليقتدي به الناس الذين هم دونه في الشرف والمنزلة بملايين الدرجات.
وزوَّج ابنته وهي سيدة نساء العالمين بمهر قليل كي لا تستنكف الفتاة المسلمة أن تتزوج بمهر قليل. وغير ذلك من الحِكَم والفوائد التي لا مجال لذكرها هنا، فقد جرى كل هذا في الأرض.
ولكن الله تعالى حفظ لسيدة النساء كرامتها، فقد زوَّج الله فاطمة الزهراء من علي بن أبي طالب قبل أن يزوِّجها أبوها رسول الله صلى الله عليه وآله من علي، وليس ذلك ببعيد، فقد زوَّج الله من هي دون فاطمة الزهراء بدرجات ومراتب كثيرة، أليس الله قد زوَّج زينب بنت جحش من رسول الله بقوله تعالى: فلما قضى زيد منها وطراً زوّجناكها.
أليس الله قد زوج رسوله امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي؟ فما المانع أن ينعقد مجلس العقد أو حفلة القِران في السماوات العلى، ويحضرها الملائكة المقرّبون كما صرَّحت بذلك الأحاديث؟ كل ذلك كرامة لها ولأبيها، وبعلها وبنيها الذين سيولدون منها، وهم حجج الله على الخلق أجمعين.
كانت حفلة القِران التي أقيمت في السماء الرابعة عند البيت المعمور وحيدة من نوعها فريدة بمزاياها، لم يشهد الكون مثلها، فقد اجتمع ملائكة السماوات كلها في السماء الرابعة ونُصب منبر الكرامة، وهو منبر من نور، وأوحى الله تعالى إلى مَلَكِ من ملائكة حُجُبه يقال له: راحيل أن يعلو ذلك المنبر، وأن يحمده بمحامده، ويمجِّده بتمجيده، وأن يثني عليه بما هو أهله، وليس في الملائكة أحسن منطقاً ولا أحلى لغةً من راحيل المَلَك، فعلا المنبر وقال: الحمد لله قبل أزليَّة الأولِّين، الباقي بعد فناء العالمين، نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين، وبربوبيته مذعنين، وله على ما أنعم علينا شاكرين، وحَجَب عنا النهم للشهوات، وجعل نهمتنا وشهوتنا في تقديسه وتسبيحه.
الباسط رحمته، الواهب نعمته، جلَّ عن إلحاد أهل الأرض من المشركين وتعالى بعظمته عن إفك الملحدين ثم قال- بعد كلام-: اختار الله الملك الجبار صفوة كرمه، وعبد عظمته لأمَته سيدة النساء، بنت خير النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين، فوصل حبله بحبل رجل من أهله، صاحبه المصدّق دعوته، المبادر إلى كلمته، على الوَصول بفاطمة البتول ابنة الرسول.
ثم أعقبه جبرئيل عن الله تعالى قوله: الحمد ردائي، والعظمة كبريائي، والخلق كلهم عبيدي وإمائي، زوّجت فاطمة أمَتي من علي صفوتي اشهدوا يا ملائكتي10.
وقد روى هذا الحديث جمع من علماء العامة منهم: عبد الرحمن الصفوري في نزهة المجالس ج2 ص223 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: دخلت أم أيمن على النبي صلى الله عليه وآله وهي تبكي، فسألها عن ذلك، فقالت: دخل عليَّ رجل من الأنصار وقد زوَّج ابنته، وقد نثر عليها اللوز والسكر، فتذكرت تزويجك فاطمة ولن تنثر عليها شيئاً. فقال: والذي بعثني بالكرامة، وخصني بالرسالة إن الله لما زوج علياً فاطمة وأمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش، فيهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وأمر الطيور أن تغني، فغنّت، ثم أمر شجرة طوبى أن تنثر عليهم اللؤلؤ الرطب مع الدر الأبيض مع الزبرجد الأخضر مع الياقوت الأحمر.
وفي رواية: إن الزواج عند سدرة المنتهى ليلة المعراج وأوحى الله إليها أن أنثري ما عليك فنثرت الدر والجوهر والمرجان.
وذكر الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ج5 ص59: عن عبد الله بن مسعود.. ثم أمر الله شجرة الجنان فحملت الحلي والحلل، ثم أمرها فنثرته على الملائكة، فمن أخذ منهم شيئاً يومئذ أكثر مما أخذ غيره افتخر به إلى يوم القيامة.
ورواه جماعة كالخوارزمي في مقتل الحسين، والعسقلاني في لسان الميزان وتهذيب التهذيب والقندوزي في ينابيع المودة.
وفي نزهة المجالس عن أنس بن مالك رضي الله عنه: بينما النبي صلى الله عليه وآله في المسجد إذ قال لعليِّ: هذا جبرئيل أخبرني أن الله قد زوَّجك فاطمة؛ وأشهد على تزويجها أربعين ألف ملَك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن أنثري عليهم الدرَّ والياقوت والحلي والحلل، فنثرت عليهم، فابتدرت الحور العين يلتقطن من أطباق الدر والياقوت والحلي والحلل، فهم يتهادونه إلى يوم القيامة. ورواه السيوطي في تحذير الخواص.
وأجرى الرسول صلى الله عليه وآله صيغة العقد في المسجد وهو على المنبر، بمرأى من المسلمين ومسمع، وهكذا سنَّ رسول الله الإعلان والإشهاد في عقد النكاح، وكميَّة الصداق كي يقتدي به المسلمون فلا يغالوا في الصداق وقال صلى الله عليه وآله: لا تغالوا في الصداق فتكون عداوة. وجعل النبي صلى الله عليه وآله المهر الذي جرت عليه السنَّة خمسمائة درهم، وتزوَّج رسول الله بزوجاته بهذا المبلغ من الصداق وكذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام كانوا لا يتعدون هذا المبلغ في الزواج.
باع عليّ عليه السلام الدرع، وجاء بالثمن للرسول، فقسّم النبي صلى الله عليه وآله المبلغ أثلاثاً: ثلثا لشراء الجهاز، وثلثا لشراء الطيب والعطر للزفاف، وثلثا تركه أمانة عند أم سلمة ثم ردّه إلى عليٍ قبيل الزفاف إعانةً ومساعدة منه إليه لطعام وليمة الزفاف.
من الطبيعي أن زواج علي عليه السلام من السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كان سبب هياج الحسد والعداء في بعض القلوب، وخاصة وأن بعضهم كان قد خطب فاطمة من أبيها فرفض طلبه، وأعرض عنه، فلا عجب إذا جاء إلى الرسول أناس من قريش فقالوا: إنك زوّجـــت عـــلياً بمــهر خـــسيس فقــــال لهــــم: ما أنا زوّجت علياً، ولكن الله زوَّجه ليلة أسرى بي عند سدرة المنتهى.. الخ11.
وقال صلى الله عليه وآله: إنما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم وأزوِّجكم إلاَّ فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء12.
ودفع الرسول شيئاً من المال لأبي بكر ليشتري لفاطمة متاعاً لبيتها الزوجي وبعث معه بلالاً، وسلمان ليُعيناه على حمل ما يشتري، وقيل: أردفه بعمار بن ياسر وجماعة، وقال لأبي بكر: اشترِ بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها.
قال أبو بكر: وكانت الدراهم التي أعطاني إياها ثلاثة وتسعين درهماً، فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشيء مما يصلح، فكان ما اشتروه:
1- فراشان من خيش مصر، حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم.
2- نطع من أدم جلد.
3- وسادة من أدم حشوها من ليف النخل.
4- عباءة خيبرية.
5- قربة للماء.
6- كيزان جمع كوز وجرار جمع جرة وعاء للماء.
7- مطهرة للماء مزفّتة.
8- ستر صوف رقيق.
9- قميص بسبعة دراهم.
10- خمار بأربعة دراهم.
11- قطيفة سوداء.
12- سرير مزمّل بشريط.
13- أربعة مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر نبات معروف.
14- حصير هجري.
15- رحى لليد.
16- مخضب من نحاس.
17- قعب للبن.
18- شنٌّ للماء.
حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع وحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الباقي، فلما عرض المتاع على رسول الله وكان في حجرة أم سلمة جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت. وفي رواية: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جُلُّ آنيتهم الخزف.
هذا جميع الأثاث والمتاع الذي اشتروه لابنة سيد الأنبياء، وهي أشرف أنثى، وسيدة نساء العالمين.
نعم، إن السعادة الزوجية لا تحصل عن طريق البذخ والترف والسرف، فإن الملابس الفاخرة، والكراسي الثمينة، والأحجار الكريمة وأواني الذهب والفضة، والفرش الغالية والستائر القيمة، والقصور الشاهقة والسيارات الضخمة، ووسائل التنوير والتبريد والتدفئة، وغيرها ليست من أسباب السعادة الزوجية التي يتصورها البسطاء من الناس.
فكم من امرأة ترفل في ثيابها وبدلاتها، وتجلس على فراش وثير، وتتلألأ الحلي- المرصّع بالمجوهرات- على جيدها ومعصميها، وشحمة أذنيها، ومع ذلك كله تشعر بأنها في جحيم، وتعتبر نفسها شقية في الحياة غير سعيدة في دنياها.
وكم من امرأة تعيش في كوخ أو بيت متواضع، تطحن وتعجن وتخبز وتغسل وتكنس وترضع وتتعب وتعيش بكل بساطة، محرومة عن مئات الوسائل مع ذلك تشعر بأنها سعيدة في حياتها، وكأن بيتها الصغير الضيّق البسيط جنة عدن.
ونفس هذا الكلام يجري في الرجال، فترى القصر المنيف المشيَّد الشامخ جحيماً على الرجل، يدخله كرهاً، وكأنَّه في قفص، ويحاول الخروج منه ساعة قبل ساعة.
وترى البيت المتواضع الحقير يأوي إليه الرجل بكل شوق ورغبة، ولا يحب مغادرة بيته حينما يرى البيت الزوجي مبنياً على أسس السعادة والخير.
ولكن مع الأسف أن ملايين الفتيان والفتيات يتصورون أن السعادة الزوجية والحياة السعيدة تحصل عن طريق الثروة والأثرياء، ويعتبرون البساطة في المعيشة من وسائل الشقاء وعلائم الحرمان.
فيبقى هؤلاء المساكين غير متزوجين وغير متزوجات، ينتظرون السعادة الزوجية تطرق باب دارهم!!
مِنْ صدَاقِ فَاطِمَة عليها السلام الشّفَاعَة يَوْم القيَامَة
إن كانت السيدة فاطمة عليها السلام قد تزوّجت بهذا المهر القليل نزولاً عند رغبة أبيها الرسول- حتى يقتدي به المسلمون- وتحقيقاً لأهدافه الحكيمة، فليس معنى ذلك أن تنسى السيدة فاطمة نفسها، أو تنسى عظمتها، بل لابدّ من المحافظة على مقامها الأسمى وحقيقتها الشريفة، ومكانتها العليا، وطموحها نحو الفضائل والقيم، ولهذا فقد روى أحمد بن يوسف الدمشقي في: أخبار الدول وآثار الأول قال: وقد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوّجها وجعل الدراهم مهراً لها فقالت: يا رسول الله إن بنات الناس يتزوّجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن؟ أسألك أن تردها، وتدعو الله تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبرئيل عليه السلام ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن. فوضعت، وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي وشفعت في عصاة أمة أبي.
إن هذا الحديث- كما تراه- يدل على ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة الزهراء من علو الهمة وسموّ النفس، وعظمة الشخصية، وبُعد المدى، وجلالة القدر، فإنها تطلب من أبيها الرسول أن يدعو الله تعالى أن يمنحها هذا الحق العظيم وهو الشفاعة في يوم القيامة. وأستجيب دعاء الرسول ونفِّذ طلبه، ونزل صك من السماء إجابة لهذا الطلب، وستبرز السيدة فاطمة ذلك الصك عند الحاجة، كما روى الصفوري في نزهة المجالس قال: قال النسفي: سألت فاطمة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وآله أن يكون صداقها شفاعة لأمته يوم القيامة، فإذا صارت على الصراط طلبت صداقها. وقد وردت روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حول أن الله تعالى جعل الشفاعة يوم القيامة من صداق السيدة فاطمة الزهراء.
الزّفَافُ وَمُقدّمَاتُه
وقعت فترة بين العقد والزفاف بدون قصد بل إن علياً عليه السلام كان يستحي أن يطالب رسول الله صلى الله عليه وآله بزوجته، وكان الرسول أيضاً يحافظ على كرامة السيدة فاطمة فما ينبغي له أن يزف ابنته قبل مطالبة زوجها ذلك.
وطالت تلك الفترة شهراً أو شهوراً، وبقي الأمر مسكوتاً عنه، وأخيراً جاء عقيل إلى علي يسأله عن سبب السكوت والقعود، ويستنهضه للقيام بمقدمات الزفاف وكان علي عليه السلام يستحي من رسول الله صلى الله عليه وآله أن يطالبه أن يزفّ السيدة فاطمة ولكن عقيلاً ألح عليه، فخرجا يريدان الدخول على الرسول للمذاكرة حول الموضوع.
التقت أم أيمن بهما، وسألت منهما عدم التدخل مباشرةً، وتكفّلت هي إنهاء الأمر، ولهذا ذهبت إلى أم سلمة فأعلمتها بذلك، وأعلمت نساء النبي، فاجتمعن عند الرسول وكان في بيت عائشة فأحدقن به، وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء لقرَّت بذلك عينها!!
فلما سمع النبي اسم خديجة بكى، ثم قال: خديجة وأين مثل خديجة؟ صدَّقتني حين كذّبني الناس، وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها!!
إن الله عز وجل أمرني أن أبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.
قالت أم سلمة: فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلاَّ وقد كانت كذلك، غير أنها مضت إلى ربها، فهنَّأها الله بذلك، وجمع بيننا وبينها في درجات جنته ورضوانه ورحمته.
يا رسول الله! هذا أخوك في الدنيا، وابن عمك في النسب، علي بن أبي طالب يحب أن تُدخل عليه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.
وفي رواية: إن المتكلمة هي أم أيمن قالت: يا رسول الله! لو أن خديجة باقية لقرَّت عينها بزفاف فاطمة، وإن علياً يريد أهله، فقرِّ عين فاطمة ببعلها، واجمع شملهما، وقرِّ عيوننا بذلك.
فقال صلى الله عليه وآله: فما بال علي لا يسألني ذلك؟
قالت: الحياء منك يا رسول الله!!
فقال- لأم أيمن-: انطلقي إلى علي فائتيني به.
خرجت أم أيمن، فإذا علي ينتظر ليسألها عن جواب رسول الله، وحضر علي عليه السلام عند الرسول صلى الله عليه وآله وجلس مطرقاً رأسه نحو الأرض حياءً منه، فقال له: أتحب أن تدخل عليك زوجتك؟ قال: نعم، فداك أبي وأمي! قال: نعم، وكرامة، أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو ليلة غد إن شاء الله.
هيئ منزلاً حتى تحوِّل فاطمة إليه.
قال علي: ما هاهنا منزل إلاَّ منزل حارثة بن النعمان، فقال النبي: لقد استحينا من حارثة بن النعمان، قد أخذنا عامة منازله!!
وصل الخبر إلى حارثة، فجاء النبي وقال: يا رسول الله! أنا ومالي لله ولرسوله والله ما شيء أحبّ إلي مما تأخذه، والذي تأخذه أحب إليَّ مما تتركه!!
يا لروعة الإيمان بالله والرسول.
يا لجمال الاعتقاد بالآخرة والأجر والثواب!!
جعل حارثة أحد منازله تحت تصرّف علي، وقام علي بتأثيث حجرة العروس وتجهيزها، فقد بسط كثيباً رملاً في أرض الحجرة، ونصب عوداً يوضع عليه القربة واشترى جرّة وكوزاً، ونصبوا خشبة من حائط إلى حائط للثياب!!، وبسط جلد كبش، ومخدّة ليف!
هذا جميع ما كان يتمتع به علي عليه السلام من متاع الحياة الدنيا وزخرفها!! لقد مرّ عليك أن الصداق الذي استلمه النبي من علي قسّمه أثلاثاً: ثلثاً اشترى به المتاع، وثلثاً للطيب بمناسبة الزفاف، وثلثاً تركه أمانة عند السيدة أم سلمة.