ألقى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)، كلمة بعنوان (الاجتهاد في مجال النظريات والنظم المجتمعية)، وذلك خلال مؤتمر تقرر انعقد في بغداد، بحضور علماء وأساتذة من جامعات العراق، وعدد من الدول العربية والإسلامية.
وجاء فيها:
الشريعة الإسلامية هي خاتمة الرسالات السماوية والنبي محمد (صلى الله عليه وآله) هو (رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب:40)، وقد أبلغ (صلى الله عليه وآله) الرسالة كاملة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3)، واقتضت الإرادة الإلهية بأن يكون هذا الدين هو المهيمن على كل الأديان والإيديولوجيات البشرية قال الله تبارك وتعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة:48) وقال تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة:33)، (الفتح:28)، (الصف:9).
لذا فقد أودعت فيها ديناميكية وحركية لمواكبة تطورات الحياة البشرية في ميادينها المختلفة، وقد أثبتت الشريعة الإسلامية قدرتها على تقديم الحلول وحل المشكلات ومواجهة التحديات طيلة القرون الماضية، وأثْرتِ الحضارة الإنسانية بمختلف العلوم والمعارف والفنون، ولم يعجز الفقهاء عن العثور على الحكم والموقف والاجراء مع الدليل عليه في كل تلك المساحات.
وهذه الديناميكية تجلّت في مجالين:
الأول: نفس أحكام الشريعة فإن فيها ما هو ثابت لا يتغير عبر الأجيال لأنها أحكام لا تتأثر بتغيرات الحياة كحقوق الإنسان وكعلاقة الإنسان برّبه أو القيم الأخلاقية التي تستند اليها التشريعات وتنبع منها.
كما أن فيها ما هو متغير متحركُ وفق ضوابط جعلتها الشريعة، وهذا لا يعني تحريفاً في الدين أو تغييراً للأحكام الثابتة لموضوعاتها، وإنما يتغير الحكم لتبدّل موضوعه بمرور الزمن والأحكام تتبع موضوعاتها، أو مراعاة لأمر أهم منه فيقدَّم عليه عند تزاحم الحكمين، أو لوجود عناوين ثانوية مسقطة للتكليف كنفي الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78) أو دفع الضرر (لا ضرر ولا ضرار) أو لانتفاء علة الحكم اذا كان منصوص العلة، أو لانتهاء أمده اذا كان موّقتاً بزمن معين، أو لصدور أمر بالولاية من الفقيه الجامع لشرائطها، ونحو ذلك.
فوجوب صوم شهر رمضان ثابت الا أنه اذا أضرَّ بصحة الانسان سقط عنه، وتصّرفُ الانسان في ملكه جائز لكنه اذا أضرَّ بالآخرين منع منه، وأداء الصلاة في وقتها واجب الا انها اذا زاحمها انقاذ حياة انسان وجب تقديم هذه الحالة الإنسانية على الصلاة.
وإن الأحكام قسمان، فبعضها تخاطب الفرد كوجوب الصلاة يومياً والصوم في شهر رمضان والحج للمستطيع، وبعضها اجتماعية عامة تخاطب الأمة ككيان من خلال مؤسسات الدولة أو النقابات، أو منظمات المجتمع المدني وسائر التشكيلات المجتمعية، فكل من هذه الكيانات النظامية والنخبوية مصداقٌ للأمة في الآية الكريمة (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران:104).
وهذه الأحكام الاجتماعية العامة هي القسم الأهم من أحكام الشريعة، وتشكّل بعض الأحكام العامة مبادئ عليا وتكون أُطُراً ومحددات لسائر التشريعات التفصيلية، بحيث لو وقع تعارض بينها وبين الأحكام الأخرى فإنها تُقدَّم عليها ولا يصح منها الا ما وقع ضمن تلك المحددات، وتكون العلاقة بينها وبين سائر احكام الشريعة كالعلاقة بين الدستور والقوانين التي تشرّعها السلطة فيشترط فيها ان لا تخالف الدستور.
وقد تكّفل القرآن الكريم ببيان هذه المبادئ العليا والقوانين العامة فهو كالدستور بالنسبة للتشريعات التفصيلية، لذا أمر أئمة الإسلام (عليهم السلام) بعرض كل ما يرد عنهم من فتاوى وأحكام على كتاب الله تعالى لاختبار صحة صدورها عنهم سلام الله عليهم، ففي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (خطب النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أيها الناس: ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فانا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)[2]، وقال (عليه السلام) (كل شيء مردود الى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)[3].
فمبدأ كرامة الإنسان مثلاً المستند إلى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70) حاكم على كل التشريعات، فلو توصل الفقيه إلى حكم يتنافى مع هذا المبدأ فإنه يعتبر لاغياً، كما هو المفروض في القوانين الوضعية فلو شرَّع البرلمان قانوناً ينافي حقوق الانسان أو مبدأ العدالة الاجتماعية كالتمييز في الاستحقاقات على أساس القومية او الانتماء الحزبي او الجغرافي ونحو ذلك فانه قانون باطل لمخالفته المبدأ الثابت.
الثاني: آلية الوصول الى الحكم الشرعي واستخراجه من مصادر التشريع وهما القرآن الكريم والسنة الشريفة وهو ما يعرف بالاجتهاد الذي يُعرَّف بانه ملكة القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية، ففتح باب الاجتهاد اعطى للمقنن الإسلامي القدرة على معرفة الحكم الشرعي في كل الأمور قال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام:38)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ــ من حديث ــ (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي الى يوم القيامة) وقال الامام الصادق (عليه السلام): (ما من شيء الا وفيه كتاب أو سنّة) وقال (عليه السلام): (ما من أمر يختلف فيه اثنان الا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال) وقال (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله وما ترك الله شيئاً يحتاج اليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ الا وقد أنزله الله فيه) وقال الامام الباقر (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج اليه الأمة الا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلى الله عليه وآله) ) وروى سماعة عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: (قلت له أكلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه أو تقولون فيه ــ أي تجتهدون فيه برأيكم ــ ؟ قال (عليه السلام): بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيّه)[4].
وفي كتاب الكافي للشيخ الكليني رواية صحيحة عن أبي عبدالله الإمام الصادق (عليه السلام) قال فيها (إن عندنا الجامعة، قلت: وما الجامعة؟ قال: صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش)[5] وارش الخدش يعني التعويض المالي على الخدش البسيط في جلد الانسان.
حتى اشتهرت كلمة لدى الفقهاء (ما من واقعة الا ولله فيها حكم) بما فيها الحالات المستحدثة وهو ما يعرف بفقه النوازل أو مستحدثات المسائل أو فقه الحوادث الواقعة التي ورد فيها التوجيه عن الامام (عليه السلام) إلى الأمة (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)[6].
ودعا الإمام الصادق (عليه السلام) الفقهاء المؤهلين لممارسة عملية الاجتهاد الى تفعيل هذه الملكة في استنباط الأحكام الشرعية، قال (عليه السلام) (إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)[7].
فمثلاً حينما توصل الطب المعاصر الى معالجة العقم بالإنجاب عن طريق التلقيح الصناعي حصلت مسألة مستحدثة لا توجد بعنوانها في كتب الفقه، لذا تصدى عدد من الفقهاء للبحث عن حكمها، وبحثنا نحن في النصوص الشرعية عن حكم صورها المختلفة سواء جرت العملية بين الزوجين أو غير الزوجين وهل التلقيح داخلي أم خارجي؟ وهل تزرع البويضة الملقحة في رحم الزوجة أو إمرأة غيرها وغير ذلك من التفاصيل وقد خرجنا بأحكام صورها المختلفة وحررّناها مع أدلتها في كتاب مطبوع بعنوان (فقه الإنجاب الصناعي).
وبالرغم من أن السلطات الحاكمة اهتمت بالفقهاء وأغدقت عليهم الأموال ومنحتهم مكانة اجتماعية مرموقة إلا أن تدخلها في عمل الفقهاء أَثَّر سلباً في أداء وظيفتهم، فقد كانت السلطة تريد فتاوى تشرعن أعمالها وتمرّر مشاريعها، وعانى الفقهاء الذين لم يمشوا مع أهواء السلطة من السجن والتعذيب والحرمان والقتل، ووصل الأمر بالسلطة إلى إغلاق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الإسلامية التي يجوز التعبد بها بالمذاهب المعروفة مما أدى إلى انكماش في قدرة الفقهاء على الاستنباط، فصار الفقهاء مقيّدين يتحركّون ضمن مساحة المذهب الذي ينتمون اليه.
وفي موازاة ذلك حوصر الفقهاء الذين يتبعون أئمة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وحرموا من المشاركة الفاعلة في مؤسسات الدولة وتسيير أمور الأمة، مما أدّى تدريجياً إلى إهمال المسائل المرتبطة بالسياسة والحكم وإدارة الدولة والاقتصاد والاجتماع والشؤون العامة لشعورهم بأنها لا موضوع لها على أرض الواقع بالنسبة لهم، فلا تستحق بذل العمر في التحقيق فيها، فاقتصروا على ما يعرف بالفقه الفردي أي التعريف بتكاليف الفرد وهو الموجود في الرسائل العملية.
ونتيجة لهاتين المشكلتين تراجع الفقه الإسلامي عن أداء وظيفته في تقديم الإسلام كنظام شامل للحياة، وأصبحت قدرة الإسلام على قيادة البشرية، وهي تصل ذروة التطور المادي وما يرافقه من تعقيد ومشاكل مثار جدل وتساؤل.
لذا نحن مطالبون بأن نكون على مستوى المسؤولية لإبراز الشريعة الإسلامية كنظام قادر على إدارة شؤون المجتمعات المدنية المتحضرة وحل مشكلات البشرية مهما كانت معقدة، فنؤسس الفقه الاجتماعي ونؤصّل له، لأن أصول الفقه وقواعده المتداولة لا تسدُّ حاجة هذا المشروع، فللفقه الاجتماعي أصوله كما أن للفقه الفردي أصوله وقد يلتقيان في بعضها دون بعض، فمن أصول الفقه الاجتماعي قاعدة وجوب حفظ النظام الاجتماعي العام وتقديم الأهم على المهم وطاعة ولي الأمر، وقد تصح وفق هذه النظرة قواعد لم تكن مقبولة على صعيد الفقه الفردي كالمصالح العامة ودفع المفاسد وسدّ الذرائع بعد إقامة الدليل عليها.
وسنحتاج إلى تثبيت الأسس الأخلاقية والمبادئ العليا لهذا الفقه مثل كرامة الانسان وحفظ حقوقه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70) والعدالة الاجتماعية كما في قوله تعالى (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) (الحشر:7) وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل:90) وبناء المجتمع الصالح على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونستثمر هذه المناسبة لتجديد الدعوة إلى المذاهب الإسلامية كافة لفتح باب الاجتهاد أسوة بالمذهب الإمامي لتحرير العقل الفقهي ومنحه القدرة على المواكبة، وحصر الإفتاء بالمجتهدين الذين يملكون هذه الموهبة لقطع الطريق على المتطفلين الذين شوّهوا صورة الإسلام بفتاوى التكفير والإرهاب والتخلّف والجهل مستدلين بروايات هنا وهناك من دون إعمال الفطنة والنظر الثاقب لفهم مراد الشارع المقدس بجعل بعض النصوص قرائن وشواهد على المراد من البعض الآخر.
إن البحث في الفقه الاجتماعي ليس ترفاً فكرياً نابعاً من فراغ، وإنما هو ضرورة حضارية، لأننا نفاخر الأيديولوجيات والنظم الوضعية الأخرى بأن الإسلام هو الأصلح لتنظيم حياة البشرية وانه النظام الأكمل والمستوعب لكل حاجات الناس في كل الأزمنة وله القدرة على مواكبة التغيرات، وهذا كله يتطلب تقديم الإسلام كنظام يدير شؤون الحياة في جوانبها المتعددة، وهذا لا يكفي فيه النمط المتعارف في الرسائل الفقهية، بل علينا أن نقدّمه كأنظمة ونظريات وقوانين تقنع الآخرين بما عندنا ولا تتركنا عاجزين عن مجاراة الأمم في إدارة شؤونها.
وقد بُذلت خلال العقود الأخيرة محاولات جادة في تقديم نظريات الإسلام على هذا الأساس ورأينا نتاجاً مثمراً ومثيراً للفخر والاعتزاز في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية.
إن الفقه الاجتماعي ليس بديلاً عن الفقه الفردي ولا يحيا بمعزل عنه فان الفقيه لا يكون (اجتماعياً) الا بعد أن يكون (فردياً) أي بعد أن ينال درجة الاجتهاد وفق الآليات المتعارفة في الحوزات العلمية، لأن الاستنباط في الفقه الاجتماعي نوع من التخصص في إعمال ملكة الاجتهاد فهو فقيه متخصًّص، والمعروف أن التخصص في أي مجال علمي كالطب مثلاً يأتي بعد نيل أصل الملكة والقدرة على ممارسة المهنة.
وهذا التخصِّص يحتاج إلى أدوات إضافية كالخبرة بالواقع المعاش والمعرفة بالعلوم المرتبطة بهذا التخصّص ويكون مصداقاً للحديث الشريف عن الامام الصادق (عليه السلام) (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس([8])) ولكي يبدع في عمله فأنه يحتاج إلى مستشارين ومراكز بحثية ترفده بالبيانات التي تنقح موضوعات المسائل التي يريد النظر فيها، وهنا يبرز الدور المهم لأساتذة الجامعات والمتخصصين والنخب الفكرية.
إن هذه النهضة تتطلب وجود فقهاء من صنف خاص أستطيع أن أصفهم بالمنظّرين وهم الذين يستوعبون القضايا والمشاكل والمسائل المستحدثة ويفهمون أسرارها ثم يغوصون في أعماق الشريعة ليستخرجوا من دررها ما يحلّ تلك المشاكل ويجيب المسائل، وقد عرفت أروقة الحوزات العلمية في القرن الأخير نماذج فذة منهم كالمحقق النائيني والشيخ حسين الحلي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد محمود الهاشمي (قدس الله أرواحهم جميعاً)، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:105).
كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي، في مؤتمر تقرر عقده في بغداد بحضور علماء وأساتذة جامعات من العراق وعدد من الدول العربية والإسلامية، تحت عنوان (الاجتهاد في مجال النظريات والنظم المجتمعية).
[2] – الكافي: 1/56 ح 5.
[3] – الكافي: 1/55 ح 3 ، المحاسن: 220 ح 128.
[4] – هذه المجموعة من الروايات في كتاب الكافي: 1/59-62 : باب: الرد إلى الكتاب والسنة.
[5]- وسائل الشيعة: 29/ 356 ط. مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
[6] – وسائل الشيعة: 27/140.
[7] – وسائل الشيعة: 27/61 أبواب صفات القاضي، باب 6 ح 51 ط. مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
([8]) تحف العقول: 259.