الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر
التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر:
إنّ أيّ نظام اجتماعيّ لا يُمارس دوره في فراغ، وإنّما في كائنات بشريّة وعلاقات قائمة بينهم، وهو من هذه الناحية تتحدّد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع، وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده تبعاً لمدى انسجامه إيجاباً أو سلباً مع التركيب النفسيّ والتأريخيّ لهؤلاء الأفراد.
ولا نقصد بذلك أنّ النظام الاجتماعيّ والإطار الحضاريّ للمجتمع يجب أن يُجسّد التركيب النفسيّ والتأريخيّ لأفراد المجتمع، ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار ومشاعر إلى صيغ منظّمة، فإنّ هذا لا يُمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إلى مجتمعات العالَم الإسلاميّ الّتي تشكو من أعراض التخلُّف، والتمزُّق، والضياع، وتُعاني من ألوان الضعف النفسيّ، لأنّ تجسيدَ هذا الواقع النفسيّ المهزوم ليس إلا تكريساً له واستمراراً في طريق الضياع والتبعيّة.
وإنّما الّذي نقصده هو بناء حضاريّ جديد لمجتمعات التخلُّف هذه لا بُدّ أن يمرّ من خلال اختيار الإطار السليم الّذي يأخذ في الحسبان مشاعر الأمّة، ونفسيّتها، وتركيبها العقائديّ والتأريخيّ، وذلك لأنّ حاجة التنمية الحضاريّة إلى منهج اجتماعيّ وإطار سياسيّ، ليست مجرّد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعيّ، ولا يكفي لسلامة البناء أن يدرس الإطار ويختار بصورة تجريديّة ومنفصلة عن الواقع، بل لا يُمكن لعمليّة البناء أن تُحقّق هدفها في تطوير الأمّة واستنفار كلّ قواها ضدّ التخلُّف إلّا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمّة ضمنه حقّاً، وقامت على أساس يتفاعل معها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
إذاً، لكي تكتمل لنا معالِم الصورة والرؤية الإسلاميّة في اختيار المنهج والإطار العام لبناء الأمّة واستئصال جذور التخلُّف منها، يجب أن نُدرك الحقيقة والأساس الّذي تنطلق منه، وهي حقيقة البدء بالتغيير الداخليّ للفرد والمجتمع معاً، وعلى ضوئها يكون لدينا مركّب حضاريّ عقائديّ قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلُّف، والتبعيّة، والاستغلال.
ومن يستطيع القيام بوظيفة التغيير الداخليّ وتقديمه للإنسان اليوم، هي الدولة الّتي تقوم على أساس إسلاميّ بحيث تُشكّل منه المنطلق نحو بناء إطارها الاجتماعيّ، ومنهجها العمليّ، وتفعيل عناصر القدرة التغييريّة فيها.
العناصر الإسلاميّة القادرة على التغيير والتجديد:
يمتلك الإسلام عناصر قوّة تُبرهن على مدى قدرته التغييريّة والتحرُّك نحو البناء الهائل للحضارة للفرد والمجتمع معاً في عالمنا اليوم، وهي كالتّالي:
1ـ الإيمان بالإسلام:
لا شكّ في أنّ إنسان العالَم الإسلاميّ ـ المعاصر ـ يؤمن بالإسلام بوصفه ديناً ورسالة من الله تعالى أنزلها على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم، ووعد من اتّبعها وأخلص لها بالجنّة، وتوعّد المتمرّدين عليها بالنار.
ولكن هذا الإيمان يعيش في الجزء الأعظم من المسلمين عقيدة باهتة، حيث فقدت عبر عصور الانحراف كثيراً من اتقادها وشعلتها، وبخاصة بعد أن دخل العالَم الإسلاميّ عصر الاستعمار، وعمل المستعمرون من أجل تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها الثوريّ الرشيد.
ولذا لم يعد المسلمون يعكسون صورة الأمّة الإسلاميّة الّتي جعلها الله تعالى أمّة وسطاً كما قال في محكم كتابه العزيز: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ…﴾، لأنّ المسؤوليّة (الخارجيّة) للأمّة الإسلاميّة أن تقوم بالشهادة على العالَم كلّه بحكم كونها أمّة وسطاً وشهيدة عليه، وما لم تتحمّل الأمّة هذه المسؤوليّة فلا معنى صحيح لوجودها.
وأيضاً لم يعد المسلمون يُمثِّلون خير أمّة أُخرجت للنّاس كما قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، لأنّ الأمّة الإسلاميّة ليست مجرّد تجميع عدديّ للمسلمين، وإنّما تعني تحمّل هذا العدد لمسؤوليّته (الداخليّة) على الأرض من خلال عمليّة البناء الحقيقيّ المتمثّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعدها يتحقّق الإيمان الحقيقيّ بالله تعالى ويتّقد شعلة في القلب لتشعّ على الآخرين، وإن لم تعد الأمّة الإسلاميّة كذلك فلا معنى لوجودها.
ولكن بالرغم من تلك العقيدة الإسلاميّة الباهتة، والّتي تُعاني منها الأمّة اليوم، إلّا أنّها تبقى حقيقة تُشكِّل عاملاً سلبيّاً في وجه أيّ إطار حضاريّ، أو نظام، أو مذهب اجتماعيّ لا ينبثق فكريّاً وإيديولوجيّاً من الإسلام، لأنّ هذه العقيدة الإسلاميّة تؤمن ـ ولو نظريّاً على الأقل ـ بأنّ كلّ إطار، أو نظام، أو مذهب لا يستمدّ قواعده من الإسلام فهو غير مشروع، وإن لم يُترجم ذلك الإيمان عمليّاً على الأرض.
وهذه الحقيقة يُمكن أن نلحظها حينما تنجح إحدى تلك الأنظمة أو المذاهب الوضعيّة في تسلُّم السلطة وقيادة المجتمع، ولكنّها سرعان ما تجد نفسها بعد فترة قليلة مرغمة على ممارسة ألوان من الإكراه، إذ يُدرك هذا النظام عجزه عن تجميع قوى الأمّة تحت لوائه ما لم يُمارس الإكراه، وكلّما زاد ممارسة الإكراه قابله المزيد من ردّة الفعل الجماهيريّ المقاوم لقبول شرعيّته ووجوده.
بينما يختلف الموقف اختلافاً أساسيّاً حينما يواجه النّاس أطروحة الدولة الإسلاميّة، والّتي تحمل الأمّة مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك استناداً إلى مبدأ الإيمان بالله إيماناً حيّاً مسؤولاً، إذ سرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة من عامل سلبيّ إلى عامل إيجابيّ في عمليّة البناء الحضاريّ الجديد، لأنّ النّاس يجدون حينئذ في أطروحة الإسلام تجسيداً عمليّاً لعقيدتهم، ولئن كان الكثير من هؤلاء ليسوا على استعداد للتضحية وتحمّل الأذى في سبيل هذا التجسيد، فإنّهم عند تحقُّقه يجدون فيه أملهم الكبير، وعقيدتهم المقدّسة، وطموحهم الدينيّ، فسرعان ما يلتحمون معه التحاماً روحيّاً كاملاً، وسرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة إلى عقيدة مشعّة، ممتلئة حيويّة وحركة ونشاطاً، وهكذا تُجنِّد طاقات الأمّة في عملية البناء الكبير بدون إكراه بل بروح الإيمان والإخلاص.
وتكفي بعض الأمثلة الصغيرة لتوضيح أبعاد هذا التحوّل المرتقَب، فالإسلام في ظلِّ العقيدة الباهتة أثبت قدرته مرّات عديدة على أن يجمع بطريقة عفويّة وباسم الجهاد أعداداً هائلة من المقاتلين، والّذين يلبّون الدعوة استجابة لعقيدتهم الدينيّة، بينما نرى أنّ الدولة الاعتياديّة لا تستطيع أن تجمع هذه الأعداد لأيّ معركة إلا باستعمال أقسى أساليب الضبط والسيطرة، فما ظنّكم بهذا الإسلام إذا امتلك القيادة الاجتماعيّة في الأمّة، وما هو التحوّل العظيم الّذي يُنجزه في مجال تعبئة الطاقات القتاليّة للأمّة!
إذاً مع قيام الدولة الإسلاميّة يوضع حدٌّ لمأساة الانشطار والتجزئة في كيان الفرد المسلم الّذي يفرض عليه ولاءات متعارضة في حياته، فإنّ المسلم الّذي يعيش في ظلِّ أنظمة تتعارض مع الإسلام يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطّراً إلى ممارسة التناقض في حياته باستمرار، إذ يرفض ـ مثلاً ـ في المسجد وبين يدي الله ما يُمارسه في المتجر، أو المعهد، أو المكتب، وتستمرّ به هذه الحالة من دوّامة التناقض والولاءات المتعارضة، فلا يجد لها حلّاً إلّا بالتنازل عن المسجد لصالح ما يُمارسه في الحياة العامّة، فيُقاسي فراغاً روحيّاً يُهدّد المجتمع بالانهيار، وبهذا يتحوّل إلى طاقة سلبيّة ويفقد المجتمع بالتدريج قدرات أطهر أبنائه، وأنظف أفراده.
ولكن في ظلِّ الدولة الإسلاميّة الّتي تتّحد فيها الأرض مع السماء، والمسجد مع المكتب، فلن يكون الدعاء في المسجد تهرُّباً من الواقع بل تطلُّعاً إلى المستقبل، ولن تكون ممارسة الحياة اليوميّة الواقعيّة منفصلة عن المسجد بل مستمدّة من روحه وعبقه، فسوف تعود إلى الإنسان وحدته الحقيقيّة وانسجامه الكامل الّذي سيتجلّى في الإخلاص والصبر على متاعب الطريق (طريق ذات الشوكة).
2 ـ المثل العليا في الإسلام:
إنّ أهمّ عامل يدفع الإنسان إلى البذل والعطاء للدعوة إلى بناء جديد، هو أن تُقدِّم له هذه الدعوة مثالاً واقعيّاً واضحاً للبناء الّذي تدعوه إلى المساهمة في تشييده.
ومن هنا فإنّ الدعوات الّتي تستورد مثلها العليا من تجارب غير إسلاميّة، تواجه صعوبة كبيرة في إعطاء رؤية واضحة للفرد المسلم عن مثلها الأعلى الّذي تحتذي به وتدعو إلى تجسيده بين المسلمين، لأنّه غريب عنهم لا يملكون عنه إلا رؤى باهتة ومتهافتة. فالديمقراطيّة، والاشتراكيّة، والمادّيّة، والشيوعيّة وما إلى ذلك من المذاهب والاتّجاهات الاجتماعيّة، مارسها الإنسان خارج العالَم الإسلاميّ وتجسّدت في أشكال مختلفة، واتّخذت صيغاً متفاوتة، ولهذا فهي لا توحي إلى الفرد المسلم بصورة محدّدة واضحة المعالِم، بل إنّه يجد أشدّ الحكومات تعسّفاً ودكتاتوريّة تحمل كلمة الديمقراطيّة كجزء من اسم الدولة، ويجد أشدّ الحكومات دوراناً في الفلك الاشتراكي تُعاني من تمييزات لا حدّ لها، ويجد المثل الأعلى لأمّة من الناس يتهاوى بعد ذلك، ويكفر به أولئك النّاس أنفسهم، ومثال ذلك ما حدث مع (ستالين) الّذي ألّهه شعبه، وإذا به يُطرد من الجنّة بعد موته، وتُنتزع منه أوسمة المجد.
وعلى العكس من ذلك الدولة الإسلاميّة، فإنّها تُقدِّم للفرد المسلم مثالاً واضحاً وضوح الشمس، قريباً من نفسه، مندمجاً مع أعمق مشاعره وعواطفه، مستمدّاً من أشرف مراحل تأريخه، وأنقاها، وأعظمها تألُّقاً وإشعاعاً. وأيّ مسلم لا يملك صورة واضحة عن الحكم الإسلاميّ في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خلافة الإمام عليّ عليه السلام، وفي معظم الفترة الممتدّة بينهما؟ وأيّ مسلم لا تهزُّه أمجاد تلك الصورة وروعتها؟ وأيّ مسلم لا يشعر بالزهو والاعتزاز إذا أحسّ بعمق أنّه يُعيد إلى الدنيا من جديد أيّام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام؟.
هذا المثال الإسلاميّ الواضح وضوح الشمس، يجعل من الفرد المسلم في إطار التعبئة الحضاريّة الإسلاميّة، وعمليّة البناء الكبير مطمئنّاً إلى طريقه، واثقاً بهدفه، وقادراً في الوقت نفسه على تمييز سلامة المسيرة أو الإحساس بانحرافه، لأنّ المثل الأعلى ما دام واضحاً لديه فهو يملك المقياس الموضوعيّ الّذي يحكم على أساسه باستقامة المسيرة أو انحرافها.
3 ـ نظافة المنهج الإسلاميّ وعدم ارتباطه بالمستعمرين:
إنّ الأمّة في العالَم الإسلاميّ عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر، والالتفاف منذ وطأ الغرب أرضنا الطاهرة بأسلحته، وأفكاره، ومناهجه، وبلورت لديها ـ أي الأمّة الإسلاميّة ـ هذه المعاناة المريرة شعوراً نفسيّاً خاصّاً تعيشه تجاه الاستعمار، يتّسم بالشكّ والاتّهام ويخلق نوعاً من الانكماش لدى الأمّة عن المعطيات التنظيميّة للإنسان الأوروبي، بل وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدّة من الأوضاع الاجتماعيّة في بلاد المستعمرين، وعدم الاقتناع بقدرتها على تفجير طاقات الأمّة وقيادتها في معركة البناء، حتّى لو كانت تلك الأنظمة مستقلّة عن الاستعمار من الناحية السياسيّة.
وقد عاش العالَم الإسلاميّ نموذجاًَ حقيقيّاً من تلك الأنظمة الحاكمة الّتي اتّخذت من القوميّات المختلفة لشعوب العالَم الإسلاميّ، فلسفة، وقاعدة للحضارة، والتنظيم الاجتماعيّ، وقدّمت شعارات ثوريّة منفصلة عن الكيان الفكريّ للاستعمار انفصالاً كاملاً، غير أنّ القوميّة ليست إلا رابطة تأريخيّة ولغويّة، وليست فلسفة ذات مبادئ، ولا عقيدة ذات أسس، بل حياديّة بطبيعتها تجاه الفلسفات، والمذاهب الاجتماعيّة، والعقائديّة، والدينيّة.
ومن هنا كان لا بُدّ للأمّة الإسلاميّة إذن ـ بحكم ظروفها النفسيّة الّتي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به من أنظمة حاكمة في العالَم الإسلاميّ وغيرها ـ أن تُقيّم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعيّ، ومعالِم حضاريّة لا تمتّ إلى بلاد المستعمرين بنسب أو تبعيّة.
وعلى ضوء ذلك برز لنا منهج إسلاميّ يتمتّع بنظافة مطلقة مقارنة مع المناهج الأوروبيّة والغربيّة الاستعماريّة بألوانها وأطرها المختلفة، فالمنهج الإسلاميّ ـ في ذهن الأمّة ـ لم يرتبط بالاستعمار أو بتأريخ أعداء الأمّة، بل بتأريخ أمجادها الذاتيّة الّذي يُعبِّر عن أصالتها وعنوان شخصيّتها التأريخيّة، ما يعكس شعوراً وإحساساً في الأمّة يُترجم من خلال انفتاحها على عمليّة البناء الحضاريّ الإسلاميّ وثقتها فيه، وبالتّالي تُحقّق المزيد من المكاسب في المعركة ضدّ التخلُّف.
أضف إلى هذا أنّ عمليّة البناء الحضاريّ الإسلاميّ لن تبدأ من الصفر، لأنّها ليست غريبة على الأمّة بل لها جذور تأريخيّة، ونفسيّة، ومرتكزات فكريّة، بينما أيّ عمليّة بناء أخرى تنقل مناهجها بصورة مصطنعة، أو مهذّبة من وراء البحار، لكي تُطبّق على العالَم الإسلاميّ سوف تضطّر إلى الابتداء من الصفر والامتداد بدون جذور.
4ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد:
إنّ أيّ حركة ـ غير إسلاميّة ـ تُمارس دور التجديد والتغيير في العالَم الإسلاميّ، ستصطدم ـ حتماً ـ بعدد كبير من الأعراف، والسنن الاجتماعيّة، والتقاليد السائدة الّتي اكتسبت على مرِّ الزمن درجة من التقديس الدينيّ، وأصبح من المستحيل التخلّي عنها بسهولة لدى جزء كبير من الأمّة. بل ستواجه تلك الحركة التجديديّة التغييريّة ردّة فعل ومعارضة دينيّة واجتماعيّة ترفض كلّ القيم والمفاهيم الجديدة الّتي ستأتي بها.
هذا الواقع سيضع حركة التجديد والتغيير غير الإسلاميّة بين خيارين:
ـ إمّا أن تُحاول استئصال الجذور النفسيّة لهذا التحفُّز الرافض والمناهض لها، باعتباره الأساس التقليديّ والدينيّ الّذي يعكس مشاعر الحفاظ والتمسُّك بالتقاليد والعادات السائدة. ولكن هذا الخيار لا يحلُّ المشكلة ـ واقعاً ـ بل سيزيدها تعقيد، لأنّه ستكشف حركة التجديد عن وجهها العدائي الصريح للدِّين، وستطرح نفسها كبديل عنه، وهذا ما سيُكلِّف عمليّة البناء جهداً كبيراً في ظلِّ معارضة شديدة من قِبَل الجزء الأعظم المحافظ والتقليديّ في الأمّة.
ـ وأمّا الخيار الثاني أن تُحاول حركة التجديد والتغيير فصل الدِّين عن هذه التقاليد، والعادات، والأعراف، وتحديد حقيقة دوره في الحياة عبر توعية النّاس على ذلك، ولكن ـ أيضاً ـ هذا الخيار ليس عمليّاً وواقعيّاً، لأنّه يعني قيام حركة التجديد والتغيير على أسس علمانيّة، سيّما في مجال فصل الدِّين عن السياسة. وهذه أيديولوجيّة وأسس لا صلة لها بالإسلام، بل هي غير قادرة على تفسير الإسلام تفسيراً صحيحاً، أو حتّى إقناع الجزء الأعظم من النّاس بوجهة نظرها في تفسير الإسلام، ما دامت لا تملك أيّ طابع شرعيٍّ يُبرِّر لها أن تكون في موقع التفسير للإسلام، ومفاهيمه، وأحكامه.
وعلى العكس من ذلك حركة التجديد والتغيير الّتي تقوم على أسس إسلاميّة ومنطلق وأهداف إسلاميّة، وذات صلة وثيقة بمصادر التشريع الإسلاميّ، وتُجسّد كلّ ذلك في دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإنّ هذه الحركة قادرة على امتصاص واستيعاب الجزء الأعظم من المحافظين والتقليديّين لمصلحة البناء والتجديد، لأنّها بحكم إدراكها العميق للإسلام قادرة على تفسير الإسلام والتمييز بينه وبين السنن، والأعراف الاجتماعيّة الّتي خلقتها العادات، والتقاليد، ومختلف العوامل والمؤثِّرات الأخرى، وفصل الإسلام عن جميع أوضاع التخلُّف والعادات والسنن السيّئة.
مثلاً: أوضاع التخلُّف الّتي تُسيطر على المرأة المسلمة وعلى علاقاتها بمجتمعها وبالرجال، بدلاً من محاربتها على أساس مفاهيم السفور ومواقف الحضارة الغربيّة من علاقات المرأة والرجل، الأمر الّذي يُصنِّف الجزء الأعظم من أفراد الأمّة في الصفِّ المعارض، يجب أن تُحارب على أساس دينيّ منطلقاً من توعية المسلمين على التمييز بين الأعراف والأوضاع الّتي سبّبت هذا التخلُّف للمرأة، وبين الإسلام الّذي لا صلة له بتلك الأعراف والأوضاع السائدة.
وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الصبر فإنّه من منظور إسلاميّ هو قيمة خلقيّة عظيمة، ولكنّه اتّخذ طابعاً سلبيّاً نتيجة لأوضاع التخلُّف الّذي يعيشه المسلمون، فأصبح الصبر عبارة عن الاستكانة، وتحمّل المكاره بروح اللامبالاة، وعدم التفاعل مع قضايا الأمّة الكبيرة وهمومها العظيمة، ولن تستطيع الأمّة أن تُحقِّق نهضة شاملة في حياتها ما لم تُغيّر مفهومها عن الصبر، وتؤمن بأنّ الصبر هو الصبر على أداء الواجب، وتحمُّل المكاره في سبيل مقاومة الظلم، والطغيان، والترفُّع عن الهموم الصغيرة من أجل الهموم الكبيرة، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين﴾.
فمن هذا الطريق يُمكن أن نُصحِّح القيم الخلقيّة الدينيّة، والعادات والتقاليد الاجتماعيّة الّتي اكتسبت طابعاً سلبيّاً من خلال أوضاع التخلُّف، ونُحوِّلها من طابعها السلبي إلى طابعها الإيجابيّ الإسلاميّ الصالح، لكي تُساهم كطاقة فاعلة في عمليّة البناء وتقدُّم حضارة الإنسان المعاصر.
5ـ التطلُّع إلى السماء ودوره في البناء:
يختلف الإنسان الأوروبيّ عن الإنسان الشرقيّ اختلافاً كبيراً، فالإنسان الأوروبيّ بطبيعته ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء، وحتّى المسيحيّة ـ بوصفها الدِّين الّذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين ـ لم تستطع أن تتغلّب على النزعة الأرضيّة في الإنسان الأوروبيّ، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحيّة من السماء إلى الأرض ويُجسِّده في كائن أرضيّ.
وليست المحاولات العلميّة للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان، وتفسير إنسانيّته على أساس التكييف الموضوعيّ من الأرض الّتي يعيش فيها، أو المحاولات العلميّة لتفسير الصرح الإنسانيّ كلّه على أساس القوى المنتجة الّتي تُمثِّل الأرض وما فيها من إمكانات، ليست هذه المحاولات ـ متعدِّدة الأساليب والأساطير ـ إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسيّ، وارتباطها الأخلاقيّ بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبيّ إلى الأرض.
هذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبيّ أن يُنشئ قيماً للمادّة، والثروة، والتملُّك تنسجم مع تلك النظرة، بل ترسّخت تلك القيم عبر الزمن، وتشكّلت في قوالب ومذاهب فلسفيّة وأخلاقيّة قائمة على مبدأ اللذّة والمنفعة، فاجتاحت الساحة الأوروبيّة عاكسة عمق المزاج العام للنفس الأوروبيّة، ومناهج تفكيرها، وطرائق حياتها وسلوكها، الأمر الّذي حقّق نجاحاً كبيراً في تفجير الطاقات المختزنة في كلِّ فرد من أفراد الأمّة الأوروبيّة، ووضع أهدافاً لعمليّة البناء والتنمية تتفق مع تلك التقييمات الفلسفيّة الخاصّة بالمادّة، والثروة، والتملُّك. وقد تبلور ذلك ـ بالفعل ـ في حركة دائبة نشيطة مع مطلع العصر الأوروبيّ الحديث الّذي لا يعرف الملل أو الارتواء من المادّة وخيراتها، وتملُّك تلك الخيرات والثروات.
ولكن بنفس الدرجة الّتي استطاعت النظرة إلى الأرض لدى الإنسان الأوروبيّ أن تُفجِّر طاقاته في البناء، أدّت أيضاً إلى ألوان من التنافس المحموم على الأرض وخيراتها وثرواتها، ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، لأنّ تعلُّق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يُضحّي بأخيه، ويُحوِّله من شريك إلى أداة.
وأمّا الشرقيّون فأخلاقيّتهم تختلف عن أخلاقيّة الإنسان الأوروبيّ نتيجة لتأريخهم الدينيّ، فإنّ الإنسان الشرقيّ الّذي ربّته رسالات السماء، وعاشت في بلاده سيّما الدِّين الإسلاميّ، ينظر بطبيعته إلى السماء قبل النظر إلى الأرض، ويأخذ بعالَم الغيب قبل الأخذ بالمادّة والمحسوس.
وافتتانه العميق بعالَم الغيب قبل عالَم الشهادة هو الّذي عبّر عن نفسه على المستوى الفكريّ في حياة المسلمين، عبر توجيه الفكر في العالَم الإسلاميّ إلى المناحي العقليّة من المعرفة البشريّة دون المناحي الّتي ترتبط بالواقع المحسوس، بل هذه الغيبيّة العميقة في مزاج الإنسان الشرقيّ المسلم حدّت من قوّة إغراء المادّة له وقابليّتها لإثارته، الأمر الّذي ترتّب عليه موقف سلبيّ تجاه المادّة بأنواعها، واتّخذ ذلك الموقف شكل الزهد تارة، والقناعة أخرى، والكسل ثالثة.
ولكن تلك المواقف السلبيّة للفرد المسلم تكون حينما تفصل الأرض عن السماء، أمّا إذا أُلبست الأرض إطار السماء، وأُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب الشرعيّ، ومفهوم العبادة، فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبيّة وما يترتّب عليها من مواقف سلبيّة لدى الفرد المسلم إلى طاقة محرِّكة وبنّاءة، تُساهم بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة.
وهذا بالضّبط ما تصنعه الدولة الإسلاميّة، فإنّها لا تنتزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء والغيب، وإنّما تُعطي له المعنى الصحيح للسماء والغيب، وتسبغ طابع الشرعيّة والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون، وسيّداً للدنيا لا عبداً لها. وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء، وفي الوقت ذاته تحتفظ بها كضمان لعدم تحوّل هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال وانحراف عن خطِّ الخلافة الربّانيّة الرشيدة الصالحة.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.