ان أي مراقب لشؤون المرجعية في العراق لا يمكنه تجاوز الخطاب الذي ألقاه المرجع اليعقوبي من خلال خطبتي صلاة عيد الفطر المبارك لعام 1442 هـ، والذي جاء تحت عنوان (الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجر طاقاته) لما فيه من عمق عملي وبعد فكري، فهو خطاب جدير بالدراسة والتحليل لأنه يكشف عن قضايا غير ملتفت لها وعليه تترتب آثار عملية بالنسبة للفرد والمجتمع والشخصيات السياسية والمؤثرة اجتماعياً، ليصحح المسار العام ويضمن النجاح في خضم المواقف والأحداث التي عصفت بالأمة.
فالذي يتمكن من تشخيص التحذيرات التي نبه عليها الخطاب وتجنبها، فالخطاب يكون بالنسبة له بشرى (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) (126) آل عمران.
وأما الذي لم يع التحذيرات ففي الفتنة يسقط ثم لا ينفعه الندم (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) (27ــ 28) الفرقان.
إن الخطاب يؤكد اقتراب الظهور وهذا ما يفرح به المؤمنون وهو يمثل البشرى، لكن هذه البشرى ترافقها تحذيرات فالذي يتطلع للظهور المبارك وإقامة دولة العدل عليه أن يكون حذراً من السقوط في الفتن.
لم يأت الخطاب بمعزل عن الواقع الذي تعيشه الأمة وان لم يتحدث عن تفصيلات قد يتطلع لها البعض وانتظروا سماعها، إلا أن الخطاب جاء كما العادة في التركيز على الحلول والطرق المنجية للأمة من الفتن، لأن الفتن واقعة لا محالة بل إن الفتن الجماعية جارية ومتحققة لعل الفتن الفردية مؤجلة نوعاً ما بالنسبة للبعض، قد يتساءل البعض ما الفتنة العامة؟ وما الفتن الفردية؟ أثمة ما يجري على أرض الواقع يتطلب هذا التحذير؟
أقول: جاء في الخطاب: (كلما اقترب الظهور زادت البلاءات والفتن على العراقيين) وهذا يعني تغير نمطية الفتن وتعقدها أكثر من ذي قبل، أي كل مرحلة تختلف عن سابقتها، لذا تحتاج إلى تكرار التنبيه والتحذير منها، ومعنى قوله (على العراق) لأنه عاصمة الدولة العادلة أي أن الأحداث الجارية وإن كان ظاهرها في مكان آخر إلا أن المقصود منها العراق بالذات، وبيان ذلك:
الجميع يتابع الاحداث الأخيرة وأعني بها الأحداث الفلسطينية وما يرتكب من جرائم بحق الإنسانية على مرأى ومسمع كل العالم، وفي الوقت نفسه تزلزل الأسطورة الإسرائيلية التي طالما أرعب بها الشعوب والحكومات بقوتها وتطورها العسكري.
وقد انشغل العالم في متابعة هذه القضية على اختلاف التوجهات وتنوع الخطابات في هذا المجال، والذي يعنيني هنا أن هذه الأحداث وإن بدت للوهلة الأولى أنها قضية مستقلة عن الشأن العراقي، إلا أن الحقيقة عدم استقلاليتها عن الأوضاع في المنطقة والتي مركزها العراق، يوجد مستويان للحديث:
المستوى الأول: قلنا في مقال سابق ان ورقة إسرائيل يبست ولا يعد لها مجالا على الشجرة فلا بد أن تأتي الرياح التي تسقطها؛ لأن مشروعاً أوسع سيحل محلها في المنطقة وهو المشروع الابراهيمي الجديد، ومن جهة أخرى أن المسيحية التي تتبناها الحكومة الأميركية تتعامل مع إسرائيل واليهودية تعامل عقدي أي أنها تعتقد بضرورة ضرب إسرائيل بعد تجمعها ليحين دور نزول المسيح المخلص، وهذا ما يبرر سكوت أمريكا عن الوضع الجاري، بل لا أبالغ أذا قلت أن من يتابع وسائل الإعلام يجد ان هناك توجه ضد إسرائيل والسماح بكل ما من شأنه ضرب عقيدة إسرائيل في احتلالهم للأراضي الفلسطينية، وفي المقابل هناك إشادة بالإسلام والمسلمين، ولا استبعد أنهم سيعملون على إظهار الجرائم الوحشية للإسرائيليين لعرضهم ككيان إرهابي يجب حظره.
وعلى كل الأحوال على إسرائيل الاستجابة للمشروع الإبراهيمي وبخلافه ستعمل أمريكا على إزالتها، أما كيفية إزالتها فلا بد أن تكون على أيدي المسلمين لأنهم الأعداء الواضحين لها، كما أن الثقافة السائدة عند المسلمين ان من يكون على يديه تحرير القدس او انهاء إسرائيل إنما هو صاحب الحق في حكم المسلمين وعليهم الرضوخ له مهما كان مذهبه أو جنسيته، ولعل الكثير من المسلمين سيقعون في هذه الفتنة لانهم يظنون انه الحق، وعلى هذا التأسيس فان الكثير سيروم المشاركة في هذا النصر وستكون فلسطين مركزا لجمع القوى الإسلامية وإفراغ المناطق التي يراد بها انشاء نمط جديد من الحكم، وقد تتحقق مقولة المرجع اليعقوبي سابقاً أن إسرائيل ستنتقل إلى شمال العراق دون أن يعترض أحد.
فلاحظ مدى ارتباط هذه القضية في الشأن العراقي وان أبنائه سيكونون اللاعب الرئيس في الموضوع، لذا فالتحذير الذي جاء في الخطاب ينبه لعدم الانسياق خلف المدعيات والعناوين التي سترفع مهما كان شان رافعها ومدعيها فإنها ستكون محرقة للتخلص من عوامل قوة عاصمة الدولة الكريمة التي ستقام في العراق.
المستوى الثاني: يتأسس على ما ذكرنا في المستوى الأول: ان العراق سيكون مقبل على انفتاح كبير على مستوى الاعمار والعمل، أي قل الرخاء وعرض النموذج الخليجي الذي طال ما حلم به الشاب العراقي، ويمكن القول انها معادلة تجريها أمريكا على ارض الواقع، اطراف المعادلة هي ان تترك القوى الإقليمية التدخل بالشأن العراقي (بعد ان أسهمت بتخريبه على مدى سنين) لأمريكا لتتمكن من عرضه كنموذج عالمي لتحقق مشروعها الكبير، والطرف الثاني من المعادلة إعطاء القيادة الرئيسة في المشروع الابراهيمي لإيران بعد ان تتخلى وتتنازل عن التطرف والتشدد وتكون دولة منفتحة على الجميع. ومن المؤكد ان الثقافة والخطاب الذي يسود في إيران فانه لا محالة سينتقل الى العراق وغيرها من البلدان التي تؤثر بها.
وعليه فان هذا الرخاء سيكون فتنة بخاصة إذا ما علمنا ان العراقيين سحقوا على مدى سنين ليضمن قبولهم باي مشروع الرخاء سيده. وبطبيعة الحال فان المقابل هو التنازل عن الإسلام والدين الحقيقي لان التركيز سيكون على العيش برخاء مهما كان المقابل.
وفي الوقت نفسه فان من سيتبنى الإسلام الحقيقي ويقبض على دينه فسيتم التعامل معه على اساسين: اما ان يضيق عليه الخناق ويمنع من اصدار أي صوت واظهاره انه ضد الحياة والعيش الرغيد ويسجن في داره ولربما تصل بهم الحال الى قتله، او يعرضون عليه المناصب والمراكز المهمة والأموال وغيرها من المغريات، وبطبيعة الحال فان المغريات ستكون بحسب مستوى الفرد وبحسب التأثير الذي يمكن احداثه على مشروعهم.
وفي النهاية لا يفوتني التذكير ان كثير ممن سمع الخطاب ولعله فهم منه فهما معتدا به سيتناساه غدا؛ لان الأمور عند مجيئها ستكون بشكل توهم الفرد بانها أمور إيجابية بل لعل من الضروري السير على وفقها. ولعل عقلية كثير من المتدينين تبرر افعالهم بذرائع قد تكون شرعية بالظاهر، فمثلا عندما تعرض بعض القوى التي ستهيمن على الأوضاع غدا على بعض الشخصيات مناصبا معينة او غيرها من المغريات فانه سينسى التحذيرات ويركض خلفها بذرائع شتى. لذا فالتحذير يكون له منشأ ولم يأت من فراغ.
في الختام أقول: ان الظهور قد اقترب ولا يمكن لفرد او لمجموعة ان توقف هذا الاقتراب فالتخطيط الإلهي سار مفعوله (لله امر هو بالغه) وهذه حقيقة لا نقاش فيها والسؤال الذي يجب ان نجيب عليه في أي صف سنكون؟ هل سننسجم مع التخطيط الإلهي ونسهم إيجابيا في المشروع الإلهي ام سنقف مع الطرف الاخر؟ جاء في الخطاب من المنجيات من هذه الفتن ركوب سفينة النجاة والالتزام بها وبكل حركة وسكنة تصدر عنها، وبحسب اعتقادي فان السفينة المنجية في زماننا تتمثل بالمرجع اليعقوبي (حفظه الله) فان سكت عن شيء نسكت وان تحدث بشيء وان لم نع مغزاه فعلينا الالتزام به، فالتحذير حقيقي ودقيق ولا يمكن لعاقل تحت أي مسمى ان يتجاهله.
اللهم ثبتنا على دينك ما احييتنا.
الشيخ عبد الهادي الزيدي