إذا لم يتعين امتثال فريضة الأمر والنهي بوسيلة محرمة فمن المقطوع به عدم جواز اتخاذ الوسيلة المحرمة، وإنما الكلام فيما لو انحصر الامتثال باتخاذ وسيلة محرمة، وقد ورد في كلمات الفقهاء (قدس الله أرواحهم) ذكر ثلاثة موارد للعنوان:
(الأول) لو لزم دفع المنكر التوصل إليه بوسيلة محرمة كما لو تطلب نهيه عن المنكر دخول داره بغير إذنه مثلاً. أو توقف نهي أهل الفسق على ارتكاب معصية كالاستماع إلى الغناء أو النظر إلى المحرمات ونحو ذلك.
وهذا غير جائر إجماعاً حتى اشتهرت كلمتهم (لا يطاع الله من حيث يعصى). ولذا اقتصروا على القدر المتقين من الوسائل المستثناة من حرمة إهانة المؤمن وإيلامه في لزوم التدرج.
ويرى سماحة الشيخ اليعقوبي أنه يستثنى منها المورد الذي تذوب فيه مفسدة الوسيلة المحرمة في مصلحة ذي المقدمة. خصوصاً إذا كان مورد الأمر والنهي مما عُلم اهتمام الشارع المقدس به على نحو لا يرضى بتفويته مطلقاً كما لو توقف حفظ النفس المحترمة أو اكتشاف خلايا الإرهابيين على ارتكاب محرم كحلق اللحية مثلاً على القول بها. أو توقف حماية النظام الاجتماعي العام من الفساد الأخلاقي والفكري، ومن التخريب الاقتصادي والاجتماعي على مثل ذلك.
فالاستثناء إذن محدد وليس مطلقاً ما كان أهم ملاكاً كما يظهر من قول السيد الخميني (قدس سره): (لو توقفت إقامة فريضة أو قلع منكر على ارتكاب محرم أو ترك واجب فالظاهر ملاحظة الأهمية). وعلق عليه البعض بأن (المعيار في ذلك كله قانون التزاحم وملاحظة الأهمية وحجم المصالح والمفاسد).
(الثاني) التوسل بالظالم لدفع المنكر: قال السيد الخميني (قدس سره): (لو توقف دفع المنكر أو إقامة منكر أو إقامة معروف على التوسل بالظالم ليدفعه عن المعصية جاز بل وجب).
والرأي المختار لسماحة الشيخ اليعقوبي، صحة هذا المورد ولكن يجب تقييده بأمرين، ذكر (قدس سره) أحدهما وذكر غيره الآخر، وهما:-
1- قوله (قدس سره): ((مع الأمن عن تعديه مما هو مقتضى التكليف)).
2- ((إذا لم يكن في التوسل به تقوية ً لظلمه)).
وبدونهما فقد تقع مفسدة أكبر بتقويته على الظلم أو بارتكابه ظلماً أفحش بحق المأمور المنهي أو غيره.
ومثال الجواز: ما لو انحصر غلق الملاهي ومحلات الخمور وصالات القمار ونحو ذلك باستصدار قرار من الحكومة غير العادلة أو الاستعانة بقوتها الإجرائية لتنفيذ هذه القرارات ونحو ذلك. والدليل على الجواز بل الوجوب أن هذا الظالم مكلّف كالآخرين بوجوب الأمر والنهي، نعم إذا وجدت مفسدة أخرى فلا بد من الاقتصار على الاستثناء الذي ذكرناه في المورد السابق.
وعلق سماحته أن هذا الفرع الفقهي (المورد الثاني) له أهمية في رسم بعض ملامح العلاقة وشكل التعاطي مع السلطات غير الشرعية.
(الثالث) حضور مجالس المنكر للتمكن من الأمر والنهي. فقد وردت نصوص عديدة في حرمة حضور مجالس المنكرات كقوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] (الأنعام:68). وتوجد روايات عديدة تدل على الحرمة:
(منها) صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه).
(ومنها) صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) – في حديث طويل- قال: (وإياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا عن ساحتهم).
(ومنها) رواية عبد الله بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره).
(ومنها) ما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): (والجالس على اللعب بها –أي الشطرنج- يتبوأ مقعده من النار، ومجلسها من المجالس التي باء أهلها بسخط من الله، يتوقعه في كل ساعة فيعمّه معهم).
يقول سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله): هذا كله بلحاظ الحكم الأولي لهذه العناوين وكلامنا فيما لو طرأ عليه عنوان ثانوي بأن أصبح حضور مجلس المنكر وسيلة للأمر والنهي الواجبين.
قال الشيخ في المبسوط: (إذا كان في الدعوة مناكير وملاهي مثل شرب الخمر على المائدة، وضرب العود والبرابط والمزامير وغير ذلك، وعلم، فلا يجوز له حضورها، وإن علم أنه إن حضر قدر على إزالته، فإنه يستحب له حضورها ليجمع بين الإجابة والازالة. وإن لم يعلم حتى حضر فإن أمكنه إزالته أزاله، لأن النهي عن المنكر واجب، وإن لم يمكنه إزالته فالواجب أن لا يقعد هناك بل ينصرف).
وأضاف (قدس سره): (وقال قوم ذلك – أي ترك المجلس- مستحب ولو جلس لم يكن عليه شيء. فإن أمكنه أن لا يحضر أصلاً إذا علم فالأولى ذلك، وإن لم يمكنه أن ينصرف فإنه يجلس ولا إثم عليه بأصوات المناكير متى لم يستمع إليها، لأن هذا سماع وليس باستماع، فهو بمنزلة من سمع من الجيران فإنه لا يأثم به، ولا يلزمه أن يخرج لأجله).
و لعل صاحب الجواهر (قدس سره) عرّض ببعض هذه الفتاوى بقوله: (لا يبعد القول بحرمة الجلوس، في مجالس المنكر، ما لم يكن للرد أو للضرورة، بل كان للتنزه ونحوه، مما يندرج به في اسم اللاهين واللاعبين، خصوصاً في مثل حضور مجلس الطبل والرقص ونحوهما، من الأفعال التي لا يشك أهل الشرع والعرف في تبعية حاضريها في الإثم لأهلها، بل هم أهلها في الحقيقة، ضرورة أن الناس لو تركوا حضور أمثال هذه المجالس، لم يكن اللاهي واللاعب يفعلها لنفسه، كما هو واضح والله أعلم).
قال سماحته صريح الشيخ وصاحب الجواهر (قدس الله سريهما) جواز الحضور لدفع المنكر مطلقاً ، وهو مخالف لسيرة الفقهاء والمتشرعة الجارية على الحرمة فلا يبيحون الدخول مع أهل المنكرات من أجل ردعهم عنها. وإلا وقعنا في عموم مقولة: ((الغاية تبرر الوسيلة))، ولذا قيَّد السيد الخميني (قدس سره) الجواز بكون ملاك دفع المنكر أهم. وقد منعنا من اعتبار معيار مطلق الأهمية مطلقاً وإلا كان هذا باباً ينفذ منه الشيطان بفخوخه ومزالقه فيفسد دين الإنسان من حيث هو يريد أن يصلح. فالصحيح هو المنع حتى لو كان متعلق الأمر والنهي أهم إلا فيما استثنيناه في العنوانين السابقين. ومنه يُعلم النظر في قول البعض: (على تقدير عدم الإمكان بغير هذه الوسيلة يفترض إجراء قانون التزاحم، فتلاحظ المصالح والمفاسد ويقدَّم الأهم على المهم، فإن المورد من صغريات التزاحم).
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ج8 – ق1 , ص481 , والصادر عن دار الصادقين 1441هـ/ 2020م.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية