المعروف عن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أنه كان يستشكل في قراءة الصائم للقرآن في نهار شهر رمضان، وهو لا يحسنها ويراها من المفطرات، وهذه الفتوى سبّبت عزوفاً لدى مقلديه عن تلاوة القرآن.
وإثبات هذا الحكم متوقف على تمامية مقدمتين: كبرى وصغرى:-
(الأولى) وهي الكبرى بأن الكذب على الله تبارك وتعالى من المفطرات.
(الثانية) وهي الصغرى بأن قراءة القرآن ممن لا يحسنها من الكذب على الله تبارك وتعالى. لأن من قال بفساد الصوم بمثل هذه القراءة إنما أدخلها تحت هذا العنوان.
أما المقدمة الأولى (الكبرى) فقد جزم بالمفطرية أو احتاط وجوباً بها السيد الخوئي والشهيدان الصدران (قدست أسرارهم). والشيخ الفياض والشيخ اليعقوبي (دام ظلهما).
والسؤال هو: هل إن قراءة القرآن لمن لا يحسنها تدخل ضمن هذا العنوان (الكذب على الله وعلى رسوله) أم لا ؟
وإذا انطبق عليها العنوان فهل هي مفطرة كما هو أم أنها خارجة عنه تخصيصاً ؟
والرأي المختار لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) هو عدم شمول الحكم للحالة لجملة من الوجوه والاستبعادات. تندرج ضمن ثلاثة عناوين:-
(الأول) عدم صدق الكذب على هذه الحالة.
(الثاني) لو كانت من الكذب فإنها ليست مقصودة بالمفطرية.
(الثالث) ورود الرخصة في قراءة العامة.
وتفصيلها كالتالي:-
1- انصراف أدلة الكذب على الله وعلى رسوله عن هذا المورد فلا تكون مشمولة بإطلاقه والوجدان قاضٍ بذلك حتى مع الالتفات إليه.
2- لازم هذا القول تعطيل القرآن فإن أكثر الناس لا يحسنون القراءة وهذا مخالف للحثّ الأكيد على تلاوة القرآن خصوصاً في شهر رمضان. كخبر جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) وخبر علي بن أبي حمزة. قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة ؟ فقال: لا ، قال: ففي ليلتين ؟ قال: لا ، فقال: في ثلاث ليالي ؟ فقال: ها وأشار بيده ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور، وكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآيةٍ فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل الله الجنة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ بالله من النار).
3- إن اللحن في الكلام ومخالفة أصول القراءة الصحيحة كان موجوداً من أول صدر الإسلام بعد أن دخلت أقوام غير عربية في الإسلام وهذا واضح من قضية أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما أمر أبا الأسود الدؤلي أن يكتب قواعد اللغة العربية وهو (عليه السلام) يملي عليه ويعطيه أصولها بعد أن وجد في مصرهم لحناً على تعبيره (عليه السلام) فلو كان ذلك مخلاً في الصوم وسبباً لفساده لورد حديث واحد يلفت نظر المكلفين إلى هذا الأمر.
4- إن نقل كلام الآخرين ما دام محافظاً على المضمون وليس مخلاً بالمعنى ليس كذباً ويصحّ أن نقول عنه قال ، وقد تبانى أهل المحاورة على ذلك وعليه جرى ديدن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ورواة أحاديثهم فإنهم كانوا ينقلون بالمعنى وقد اختلفت عباراتهم فيما بينهم وكلهم يقولون قال الإمام (عليه السلام )؛ وكان ذلك – أي نقل المضمون- برضا الإمام (عليه السلام).
5- إن الكذب كالصدق من شؤون الإخبار وقارئ القرآن غالباً لا يقصده وإنما هو يقرأ القرآن لما علمه من ثواب قراءة القرآن من دون أي لحاظ آخر. نعم ، لو أخبر عن الله تعالى بأنه قال كذا حينئذٍ تندرج المسألة في البحث.
6- إن الكذب إنما يكون بلحاظ المعنى المقصود للمتكلم فإن كان مخالفاً للواقع كان كذباً وإلا فلا ، وليس بلحاظ انطباق اللفظ على الواقع ، ولذا لم يفرّقوا بين كون الكلام على نحو الحقيقة أو المجاز أو الكناية.
7- إن المفطرات إنما يترتب عليها الأثر لو كان المكلف ملتفتاً إلى مفطّريتها وأغلب الناس غير ملتفتين إلى مفطّرية القراءة غير الصحيحة للقرآن الكريم. اللهم إلا أن يقال إن ذلك في المفطرات المحللة في نفسها لا المحرمة والقراءة غير الصحيحة كذب محرّم ، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات.
8- إنه توجد قراءات عديدة للقرآن وقد أفتى الفقهاء بجواز القراءة بجميعها إذا كانت متداولة في زمان المعصومين (عليهم السلام) ولم يعترضوا عليها فتجد للكلمة الواحدة عدة قراءات وهي معروفة لمن اطلع على علوم القرآن ومثبـّتة في مصاحف كثيرة. والمفروض أنها إنما نزلت بقراءة واحدة وهذا الاختلاف إنما نشأ من القرّاء وحينئذٍ يكون ذلك مفطّراً !! بل لا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن نهاراً في شهر رمضان للعلم الإجمالي بأن بعض هذه القراءات ليست من التنزيل فيتولد من أي قراءة شك في المحصّل فعليه الاحتياط بالترك.
9- إن سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وغيره استشكلوا على مفطرية الكذب فيما (إذا تكلم به غير موجه خطابه إلى أحد ولم يكن هناك من يسمعه ، أو كان موجّهاً إلى من لا يفهمه كالحيوان أو الميت، والأظهر الصحة) فلو فُرضَ صحة المسألة محل البحث فكان ينبغي نصيحة الصائم أن يقرأ القرآن منفرداً من دون أن يستمع إليه أحد.
10- إننا انتهينا إلى أن القول بمفطرية الكذب على الله تعالى ورسوله مبني على الاحتياط وهو أصل لا يثبت لوازمه. فلو ارتكب الصائم الكذب فإنه مخالف لمقتضى الاحتياط لكنه لا يثبت بها القضاء أو الكفارة.
والنتيجة أنه إذا كانت القراءة غير مخلّة بالمعنى فلا تكون مفطرة خصوصاً مع عدم الالتفات إلى أنها غير صحيحة أو أن القراءة غير الصحيحة من الكذب على الله وعلى رسوله – كما قيل- وكذا لا تكون مفطرة مع عدم قصد الإخبار.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) , ج3, ص437, والصادر عن دار الصادقين 1441هـ / 2020م.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية