أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم 6).
قال الإمام الصادق عليه السلام: (إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكفلها وإن لم يكن من طبعه ذلك: معاشرة جميلة وسعة بتقدير وغيرة بتحصين) .
إن هذه الخصال الثلاثة من الصفات التي تجلب للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة وتوفر له أجواءً أسرية كريمة، ولا أريد التفصيل في الحديث المتقدم وإنما سأتحدث عن الخصلة الثالثة وهي الغيرة على الأعراض، والتي أخذت تفتقد شيئاً فشيئاً في المجتمع البشري، حتى عند بعض العوائل التي كنا ننعتها بالعوائل المحافظة مع شديد الأسف.
والغيرة صفة أخلاقية تدفع الإنسان في طريق الدفاع المستميت عن الدين والمذهب والعرض والبلد، بل إن كل حالة من الدفاع الشديد عن القيم الإنسانية فهي تتضمن نوعاً من الغيرة، رغم أن هذه المفردة تستعمل غالباً في دائرة الغيرة على العرض والناموس، ولكن مفهومها واسع يستوعب مصاديق أكثر.
فالعفة التي نطلبها من المرأة هي انقياد القوة الشهوية للقوة العاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه، فتكتسب الحرية وتتخلص من أسر عبودية الهوى، وهي لا تختص بالمرأة فالرجل يطلب منه ذلك أيضاً.
والعفة لدى المرأة من أهم مقوماتها الغيرة بفتح الغين لدى الرجال وهي السعي في المحافظة على ما يلزم المحافظة عليه، وهي من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوتها وبها تتحقق الرجولية والفاقد لها غير معدود من الرجال، والمعنى من كان أكثر غيرة كان أكثر عفة والعكس صحيح.
والعفة تعني الامتناع عن القبائح وحالة الانزجار والترفع عن رؤية الظواهر المنافية للشرف والأخلاق، والغيرة المراد منها كل اهتمام للشخص بالدفاع عن حقوقه الإلهية والإنسانية، وما يشعر به الإنسان في ذاته من بواعث الرفض والتصدي لحالات ومظاهر الرذيلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الغيرة من الإيمان وإن المذاء من النفاق) والمذاء بفتح الميم هو جمع الرجال والنساء وتركهم يلاعب بعضهم بعضا أو هو الدياثة والعياذ بالله.
قال الكليني: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (أما تستحيون ولا تغارون نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوج).
وقد ورد في حديث الإمام علي عليه السلام للرجال الذين تخرج نساؤهم من منازلهم بدون اهتمام بالحجاب ويختلطن مع الرجال فقال: (لعن الله من لا يغار).
وجاء في وسائل الشيعة في الجزء الرابع عشر قال الإمام الباقر عليه السلام: (أتى النبي بأسارى وخلا رجل من بينهم فقال الرجل كيف أطلقت عني؟ فقال (ص) أخبرني جبرئيل عن الله أن فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك والسخاء وحسن الخلق وصدق اللسان والشجاعة.
فلما سمع الرجل أسلم وحسن أسلامه وقاتل مع رسول الله ص حتى استشهد، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى ليبغض الرجل يدخل عليه في بيته فلا يقاتل). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الله يغار للمؤمن فليغر من لا يغار فإنه منكوس القلب).
وأوضح العلامة المجلسي إن المراد بالقلب المنكوس هنا هو التشبيه بالإناء المقلوب الذي لا يبقى فيه شيء من الطعام أو الماء، فالحديث الشريف يقرر أن قلب مثل هؤلاء الأشخاص الفاقدين للغيرة خال من الصفات الأخلاقية السامية وفارغ من المثل الرفيعة.
وهذا التعبير يدل بوضوح إلى أن صفة الغيرة ترتبط برابطة وثيقة مع سائر الصفات الأخلاقية العليا للإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان إبراهيم أبي غيور وأنا أغير منه وأرغم الله أنف من لا يغار من المؤمنين)، ومعنى أرغم الله أنف من لا يغار بمعنى أذل الله من لا يغار كما يذل الأنسان حين يوضع أنفه في التراب من قبل أعدائه، وهذا الشخص قد وجه العداء لله تعالى حين ترك الغيرة، فكان الجزاء أن الله سبحانه وتعالى هو من سيتولى مهانته ونزع كرامته.
أيها الأخوة الأكارم ..
إن الغيرة توجب حب الله تعالى فمن أراد أن يحبه الله تعالى فعليه بالتحلي بهذه الصفة الأخلاقية العليا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لغيور والله عز وجل أغير مني وأن الله تعالى يحب الغيور).
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (قدر الرجل على قدر همته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته) وما ينفي الغيرة عن بعض مدعيها هو أفعالهم فالزاني مثلا لا يملك غيرة فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (ما زنى غيور قط).
وكما تعلمون أن الزنا له مقدمات وهي التي أشار لها قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)، ومعنى ذلك تجنب المقدمات التي توقع الإنسان في هذه الرذيلة، وهذا يتطلب خطبة مستقلة لإيضاحه نسأل الله أن يوفق جميع المؤمنين بيان ذلك، وبديهي أن الشخص الذي يشعر بالغيرة على عرضه لا يقبل أبدا أن يتعرض لأعراض الآخرين من موقع الخيانة، وعلى هذا الأساس فكلما كانت غيرة الإنسان أكثر فإن عفته ستكون أكثر بالتبع.
ولهذا تجد أن النبي يوسف عليه السلام حين تعرض للتحرش من قبل نساء مصر وخاصة زليخا إمرأة العزيز حيث طلبت منه الاستسلام والرضوخ لمطاليبهن اللامشروعة وارتكاب الفاحشة، حيث كان يوسف عليه السلام آنذاك في سن الشباب والمراهقة، وتهب في صدره أعاصير الحيوية والغريزة والانجذاب إلى الدنيا، إلا أنه قاوم كل هذه التحديات الداخلية والخارجية الصعبة.
حتى أنه فضل دخول السجن مع جميع مشقاته وآلامه على الاستسلام لمطاليبهن والرضوخ للشهوة والمقام والجمال، بل طلب من الله تعالى أن يوفقه لدخول السجن للخلاص من هؤلاء النسوة، وقال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)، فغيرته منعته من الزنا.
بينما نلاحظ عدم الغيرة لدى عزيز مصر وحالة التساهل في أمر العفة لدى زوجته، وبعدما ثبت له سلوك زوجته الخائنة أكتفى بالقول (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).
وأحياناً يعيش الإنسان الغيور تحت عنصر الغيرة بحيث تتضاعف قوته إلى قوة عشر أشخاص أو مئة أو أكثر، وتدفع به إلى حد التضحية بنفسه والصمود البطولي بشجاعة وشهامة كبيرة.
ولهذا السبب كانت الغيرة أحد العوامل المهمة في طريق العزة والافتخار والحياة الشريفة، وأما الأشخاص الذين يعيشون الانحراف والتلوث فعندما يواجهون إنساناً غيوراً في تحرشهم بأعراض الناس، فإنهم يفتقدون مقاومتهم بسرعة ويتراجعون أمامه في صورة من التخاذل والذلة.
وهذا هو أيضا من بركات الغيرة فالغيرة تتسبب أيضا في تقوية عناصر الشد للقيم الأخلاقية والمثل الرفيعة للمجتمع الإنساني وتجعله محفوظا من التلوث والانحراف في منزلقات الخطيئة .
إن الغيرة تتسبب أيضاً في حفظ أمن المجتمع وإزالة مظاهر الفساد والفحشاء، في حين أن عدم الغيرة يهدم أمن المجتمع ويعمل على تحطيم المثل الإنسانية والقيم الأخلاقية في أفراد المجتمع، وبالتالي ينزلق مثل هذا المجتمع نحو الفساد والانحطاط الأخلاقي.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الجنة لتوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجدها عاق ولا ديوث)
وبالطبع فإن هذه الصفة الأخلاقية حالها حال الصفات الأخرى من حيث أنها قد يسلك بها الإنسان سبيل الأفراط والتفريط، وبذلك تتبدل إلى خلق ذميم وذلك في صورة ما إذا كان الدفاع المذكور يتخذ صبغة التعصب الذميم والوسواس والدفاع غير المنطقي وغير العقلائي.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فأما ما يحب فالغيرة في الريبة وأما ما يكره فالغيرة في غير الريبة).
كاتهام الزوجة مثلاً بعدم العفة على أساس من الظن والاحتمال وتعتمل في صدره عناصر الوسواس والشك تجاه الزوجة البريئة، فمثل هذه الحالة السلبية تكون خطرة على سلامة الإنسان والأسرة، وتؤدي إلى تشجيع الأبرياء إلى الوقوع في وحل الخطيئة وتقودهم إلى مستنقع الرذيلة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (وإياك والتغاير في غير موضع الغيرة فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة إلى الريب) قال امير المؤمنين عليه السلام: (وإياك والتغاير في غير موضع الغيرة فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم ولكن أحكم أمرهن فإن رأيت عيبا فعجل النكير على الكبير والصغير).
اللهم أحفظ أعراض المسلمين وألبس نسائهم الحياء والعفة وعزز في قلوب الرجال الغيرة والحمية على الأعراض والدين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الخطيب الحسيني السيد رسول الياسري
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية