استحدث في الجمرات الثلاث التي ترمى في منى في السنوات الأخيرة أمران:
1-بناء جدار طويل يتوجه إليه الحجاج بالرمي بعد أن كانوا يوجهون حصاهم إلى شاخص لا تتجاوز مساحة مقطعه متراً مربعاً.
2- بناء طوابق متعددة فوق الطابق الأرضي وفي كل منها جدار يرميه الحجاج.
ومن هنا انفتح السؤال حول إجزاء الرمي إلى هذا الجدار على طوله الذي قيل إنه يبلغ 26 متراً والرمي الذي في الطوابق العليا غير الطابق الأرضي.
وإذا كان الحكم هو الإجزاء فلا شك أنه يساهم كثيراً في فك الزحام عند رمي الجمرات الذي تسبّب في المئات من الضحايا بسبب التدافع والاختناق، لحرص الحجاج على إصابة الأعمدة الشاخصة في مواضع الجمار، باعتبار أن المرتكز في أذهانهم هو أن الواجب في الرمي إصابة العمود الشاخص بحيث لو أخطأه لم يُجزِه وعليه الإعادة، وقد نشأ هذا الارتكاز من ذهاب عدد من الفقهاء المتأخرين (قدس الله أرواحهم) إلى أن الجمرة الواجب رميها هو العمود أو البناء كما سننقل عنهم بإذن الله تعالى.
ولكن الفقهاء المعاصرين في الحجاز أفتوا بأن الموضع الواجب رميه هو أرض الجمرة التي يقع الشاخص في وسطها والتي يجتمع فيها الحصى فهم يعتبرون مجتمع الحصى هو موضع الجمرات، وإنما اختلفوا من جهتين: –
1- هل إن العمود الشاخص من الجمرة التي يصحّ رميها بحيث أن العمود لو أزيل فهل يجزي الرمي إلى موضعه؟
2- مساحة الموضع الذي يصح رميه.
قال بعض أعلامهم: ((وقد اتفق الفقهاء على أن الجمرة هي مجتمع الحصا الذي تحت العمود، فإذا وقع الحصا تحت العمود أجزأ. ولكنهم اختلفوا فيما خرج عن مجتمع الحصا، أو وقع على الشاخص ولم تنزل فذهب بعض علماء الحنفية إلى أن الحصاة إذا وقعت قريباً من الجمرة أجزأت، والقرب حسب العرف فما عُدّ قريباً فهو قريب، وما عد في العرف بعيداً فهو بعيد)).
فجمهور العلماء يرون أن محل الرمي هو مجتمع الحصى ويزيد الحنفية جواز وقوع الحصى قريباً من المرمى، ويرى المالكية وبعض الشافعية جواز رمي الشاخص أو محله)).
والأساس الذي ننطلق منه للإجابة عن السؤال محل البحث هو تحديد الموضع الواجب رميه هل هو العمود الشاخص والبناء القائم أم هو الأرض حوله التي تجتمع فيها الحصى وهذا لا يعني الملازمة بين الإجزاء وكون محل الرمي هي الأرض مثلاً، فإن بعض من عرّف الجمرة هو العمود ومع ذلك قال بإجزاء الرمي من الطبقة العليا. والذي يظهر من كلمات فقهائنا أن الأقوال في المسألة عديدة:
(القول الأول) أنه العمود الشاخص أو البناء القائم: ويستفاد هذا القول من كلمات جملة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) مطابقةً أو اقتضاءً فقد صرّح بذلك السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقوله: ((والجمرة عبارة عن حائط أو أسطوانة، محاطة بحوض أو جدار دائري يقف الحجاج أمامه ويرمون الأسطوانة بالأحجار السبعة)).
وقال السيد الخوئي (قدس سره): ((إذا زيد على الجمرة في ارتفاعها ففي الاجتزاء برمي المقدار الزائد إشكال، فالأحوط أن يرمي المقدار الذي كان سابقاً، فإن لم يتمكن من ذلك رمى المقدار الزائد بنفسه على الأحوط استحباباً واستناب شخصاً آخر وجوباً لرمي المقدار المزيد عليه)).
(القول الثاني) إنه الأرض التي وضع الشاخص علامة عليها ويجتمع فيها حصى الجمار: وقد نسبه الشهيد الأول (قدس سره) في الدروس إلى علي بن بابويه والد الصدوق (رضي الله عنهما) في النص المنقول آنفاً، ولعله يشير بذلك إلى ما ورد في فقه الرضا الذي رجحنا أنه رسالة لوالد الصدوق (رضي الله عنهما) فقد جاء فيه: ((فإن رميت ودفعت في محمل وانحدرت منه إلى الأرض أجزأت عنك،
وإن بقيت في المحمل لم تجز عنك وارم مكانها أخرى)). وممن صرّح بذلك أبو الصلاح الحلبي (قدس سره) في الكافي: ((فإن رمى حصاة فوقعت في محمل أو على ظهر بعير ثم سقطت على الأرض أجزأت، وإلا فعليه أن يرمي عوضاً عنها)). وحكى السيد ابن زهرة (قدس سره) الإجماع عليه بقوله: ((وإذا رمى حصاة فوقعت في محمل أو على ظهر بعير ثم سقطت على الأرض أجزأت … كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه)).
والرأي المختار لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)، هو أن الواجب رميه هو الموضع المخصوص والمعين من الأرض والذي عرف عبر التأريخ بعلامات عديدة كالصخرة أو الأكمة أو الأعلام أو الأعمدة، ودليله على ذلك: –
1-إن هذا هو ما يفهمه العرف من أمثال هذه الأمور كما يفهمه من الأفعال المتعلقة بالمواضع الأخرى التي عليها بناء ونحوه، فضلاً عما لم يثبت وجود شيء عليه كالطواف حول الكعبة أو السعي بين الصفا والمروة أو زيارة قبور المعصومين (سلام الله عليهم)، فإن الكعبة –كبناء- قد تُزال بهدم ونحوه- كما حصل هذا أكثر من مرة بسبب السيول وعدوان الطغاة- ولكن محلها يبقى هو قبلة المصلين ومحور الطائفين، وإن جبلي الصفا والمروة قد يزالان –كما أزيل جزء كبير منهما اليوم- ويبقى السعي بين موضعيهما وهكذا.
2- إن الحقائق التأريخية تشير إلى أن بناء الأعمدة هو أمر مستحدث بعد عصر المعصومين (سلام الله عليهم) لذا لا نجد له أثراً في الروايات الشريفة ولا في كلمات القدماء (قدس الله أرواحهم)، لكن هذا لا ينفي وجود علامات أخرى سابقة عليها كالصخرة أو الشجرة أو الأعلام ونحوها وإلا لضاعت البقعة المخصوصة –وهي عدة أمتار مربعة- بين بقاع وادي منى، ولذا نقل علماء الحجاز أنفسهم اختلافهم في وجود العلم والشاخص على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اتفاقهم على أن البناء أمر مستحدث، لكن هذا لا يخرجها عن كونها علامات على الجمرة وليس أنها هي، وعلى هذا فلا حجية في اشتراط إصابتها، نعم هي جزء من الموضع الواجب رميه لأنها أنشئت فيه.
3- إن العوارض الطبيعية تقتضي كون موضع الرمي الأصلي مدفوناً تحت الأرض بعمق عدة أمتار لمرور عدة قرون عليه مع تراكم التراب والحصى وتحولها إلى طبقات بفعل السيول الواصلة إليها.
هذا وقد ذكر سماحته (دام ظله) أنه يمكن الخروج في نهاية البحث بعدة أمور:
(الأول) إن محل الرمي هو الموضع المخصوص من الأرض، وإن العمود والبناء ونحوهما علامات عليه.
(الثاني) لو فرض بقاء العلامات والأعلام الأصلية فلا يقتصر محل الرمي على موضعها لأنها توضع عادة في وسط المحل فيجتمع حولها الحصى، أو في أطرافه لتحديده، وإلا فليس لمساحة موضع الرمي حد محدود والمهم صدق الرمي عرفاً إلى الموضع المخصوص، ويختلف الصدق بحسب كبر مجتمع الحصى الذي يقتضيه عدد الحجاج –كصدق الطواف حول البيت الذي تتسع دائرته بزيادة عدد الحجاج-، ولا يجزي الرمي إلى الحصى السائل إلى غير هذا المجتمع.
(الثالث) إن أرض الرمي الأصلية وما عليها من علامات توجد تحت سطح الأرض الموجودة اليوم، ويوجد طابق تحت الأرض مشيد وله طريق خاص يوصل إليه لكنه غير متيسّر لعامة الحجاج، وهذا يكون هو الأرض الأصلية أو قريباً منها باعتبار أن مقتضى فعل الطبيعة والعوامل المناخية وتراكم التراب والحصى وما تجرفه السيول والأمطار هو تراكم الطبقات بمرور الزمن. فالمشكلة محل البحث شاملة للطابق الأرضي كالطوابق العلوية.
(الرابع) مع تعذّر إصابة الموضع الأصلي لما ذكرناه أعلاه، يجزي الرمي إلى الجزء الذي فوقه، لصدق الرمي عرفاً إلى الموضع المخصوص، نظير إجزاء الرمي إلى كومة الحصى على الأرض كالرمي إلى الأرض. لكنه لا يتعين إصابة العمود ونحوه للقطع بأنه بناء مستحدث بديل عن الموضع الأصلي لإقامة هذا النسك الواجب باعتبار عدم سقوط وجوب رمي الجمرات من مناسك الحج بأي حال من الأحوال.
(الخامس) يتحرى الحاج الرمي من الطابق الأرضي بالصورة التي ذكرناها آنفاً، فإذا تعذّر عليه فلا مانع من رمي الجمار من الطوابق العلوية ما دامت تقع في الحوض الذي شكله كالقمع فتنزل إلى موضع الرمي في الطابق الأرضي، بل نُقل أن حوض الطابق الأرضي مفتوح إلى طابق تحت الأرض الذي يكون قريباً إلى الأرض الأصلية. وسبب تقديم الطابق الأرضي على الطوابق العلوية مع كونها جميعاً مستحدثة، أن الطابق الأرضي يصدق عليه عرفاً محل الرمي بعد دفن الموضع الأصلي وهكذا كل مكان يدفن بمرور الزمن وتتراكم عليه الطبقات –كالمراقد مثلاً-، وهذا لا يصدق على الطبقات العليا، ومن هنا افترق الطابق الأرضي عن الطبقات العليا. نعم إذا لم يصدق عرفاً وحدة الموضع على الطابق الأرضي لكونه بكامله مستحدثاً ومفصولاً عن الأرض الأصلية وليس أنه من الطبقات المتراكمة عليها، فلا فرق في عدم الأجزاء حينئذٍ بين الطابق الأرضي والطوابق العلوية من هذه الناحية، ولعل الموجود خارجاً هو هذا.
(السادس) إن الرمي إلى جزء الجدار الواقع في أرض الرمي لا بأس به باعتبار أن العرف يراه جزءاً من المرمى ولأن الموضع لم يخلُ عبر التأريخ من صخرة أو بناء أو أكمة. والأحوط مراعاة أن تضرب الحصاة به وتسقط في موضع الرمي الصحيح، ولا يصح الرمي إلى الأجزاء العالية أو الأطراف البعيدة من الجدار بحجة أنها ستتدحرج في القمع المخروطي وتقع في الموضع الصحيح؛ للشك حينئذٍ في تحقق القصد لرمي الموضع، ولأن الواجب إصابة الجمرة بالرمي لا مطلق إيصال الحصاة إليها، خلافاً لما يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: ((نعم لو وقعت على شيء فانحدرت على الجمرة أو مرّت على سنتها حتى أصابت الجمرة جاز، وكذا إن أصابت شيئاً صلباً فوقعت بإصابته على الجمرة للصدق بعد أن كانت الإصابة على كل حال بفعله)).
وبعبارة أخرى إننا نقول بالإجزاء حينما تضرب الحصاة جزء الجدار المذكور وتقع في مجتمع الحصى، لأننا نرى أن هذا البناء جزء من موضع الرمي عرفاً وليس لأن الواجب قد تحقق بوصول الحصاة إلى مجتمع الحصى على أي نحو كان ولو برميها إلى الجدار ووقوعها في مجتمع الحصى.
وفي ضوء هذا ينبغي للحجاج المحترمين (زادهم الله شرفاً) أن يقتربوا من الموضع المذكور من الجدار، وأن تكون النية امتثال الواجب الموجه إليهم من رمي الجمار وليس خصوص رمي الجدار.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ج7,ص221, والصادر عن دار الصادقين 1441هـ- 2020م.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية