لقد انتهت المرحلة الدفاعية من سلسلة المواقف الجهادية من حياة السيدة الزهراء بالاستشهاد من اثر ما تعرضت له من هجوم على دارها ، فأوصت قبل رحيلها في هذه اللحظات ببعض الوصايا التي ضمت في طياتها سلسلة من الاسرار ذات الابعاد القصدية وعلى مختلف الاتجاهات فكانت هذه الوصايا كدلائل استقرأت من خلالها اسباب الدفن ليلا وما ارتبط به من عدم صلاة البعض والاثار المستقبلية المترتبة على اثر ذلك، مبينة مدى المظلومية التي لحقت بها ومن هم ظالميها ، وما هي الاسباب التي دفعتهم لظلمها؟ وما هي الاجراءات التي اتخذتها في معاملتهم في حياتها وبعد استشهادها ؟ وهل رضيت على من ظلمها؟ و ماذا ارادات ان تثبت من وصيتها هذه؟ كل اسباب الصياغات التقنينية لهذه الوصايا سنتعرف عليها من خلال وصيتها بعدم صلاة ظالميها عليها ودفنها ليلا.
اولا: تقنين الصلاة رؤية بنائية لتجذير ادوار رسالية:
ان الدور الاعلامي الذي تحركت من خلاله السيدة الزهراء كان ذا تخطيط على مستويات متعددة ضمن محور حركتها الرسالية لإثبات نجاح ثورتها السياسية واظهار مظلوميتها ، فرسالتها لم تكن ذات اهداف انية وانما قصدت بها ابعاد مستقبلية اخرى لتكشف للأجيال مدى مظلوميتها و دفاعها عن حق الرسالة والامامة ولعل من اهم تلك الاساليب الثورية وصيتها بان لا يحضر جنازتها و لا يصلي عليها من ظلمها او شارك في ظلمها من الامة ، إذ قالت عليها السلام في وصيتها لأمير المؤمنين : ((…أوصيك إن لا يشهد احد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي ، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله وان لا يصلي عليَّ احد منهم ، ولا من أتباعهم ، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الإبصار)).
فوصية الزهراء هذه تستوقفنا لبرهة وتستوجب علينا التساؤل بعدة أطر ومنها :
لماذا اوصت الزهراء 3 ان لا يصلي عليها من ظلمها ، لماذا الصلاة بالذات ؟ لماذا ربطت الصلاة بقضية مظلوميتها؟ فما هي الابعاد الارتباطية بين قضية السيدة الزهراء والصلاة؟ ماذا تعني الصلاة في فكر الزهراء ؟ فهل كان من الممكن ان تقتصر وصيتها فقط على عدم الحضور الى جنازتها؟ ولعل الاجابة حول كل هذه التساؤلات تكمن في عدة امور منها:
1- ان الصلاة عمود الدين أن قبلت قبل ما سواها وأن ردت رد ما سواها ، كما ان الصلاة هي صفة الصابرين والخاشعين، وان الصلاة على الميت لها اجر عظيم، فالزهراء اعطت بذلك درسا من ان الصلاة عليها مرتبط برضاها ورضاها مرتبط برضا الله تعالى.ومن ثم فان استبعاد من اوصت بعدم صلاتهم عليها يجعلهم في دائرة السوء والبعيدين كل البعد عن الصبر والخشوع وعن رضا الله تعالى.
2- ان في الصلاة يتم ذكر الله تعالى والتشهد بمحمد رسوله فأرادت ان تبين ان كل من منعته من حضور الصلاة عليها هو بعيد كل البعد من التمسك بوصايا رسول الله واتمام دينه بمخالفتهم وصيته بولاية علي بن ابي طالب امام وولي بعده لأنه به كمل الاسلام وتم دينا.
3- اتخذت السيدة الزهراء هذه الالية السياسية لمناهضة ظالميها ولتثبت مظلوميتها ومطالبتها بحق ولاية امير المؤمنين و لتوثق للتاريخ من هم ظالميها و اسباب مقاطعتهم وعدم رضاها عليهم .
لقد تمسك امير المؤمنين بتنفيذ وصاياها عليها السلام ولم يدع ظالميها ان يحضروا جنازتها للصلاة عليها، ولذلك لما علموا بدفنها وعدم السماح لهم بالصلاة عليها رام عمر اخراجها والصلاة عليها لكن حال دون ذلك امير المؤمنين إذ يروى: ((فلما اصبح الناس اقبل ابو بكر وعمر والناس يريدون الصلاة على فاطمة فقال المقداد : قد دفنا فاطمة البارحة . فألتفت عمر الى أبي بكر فقال : والله لا تتركون يا بني هاشم حسدكم القديم لنا ابدا. إن هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب والله لقد هممت أن انبشها وأصلي عليها . فقال علي والله لو رمت ذلك يا بن صهاك لأرجعت اليك يمينك. والله لئن سللت سيفي لا اغمدته دون ازهاق نفسك ، فرم ذلك فأنكسر عمر وسكت ،وعلم ان عليا اذا حلف صدق)) .
ولعل ابرز سببا لذلك ينطوي في أن السيدة الزهراء ارادت ان ترسل رسالة للامة بانها غير راضية بأفعال القوم وكانت ابلغ رسالة تعبيرية عن موقفها وصيتها بعدم حضور جنازتها والصلاة عليها والسبب في ذلك لان الصلاة ربما قد تعطي اشعارا بالرضا لا سيما وقد ادعى القوم ان الدفن ليلاً منهج متبع لدى المتقدمين لكن لم يستطيعوا ان يعطوا وجها لعدم الصلاة عليها فكأنها كانت عالمة بما يبرر بها القوم الحوادث فأرادت ان تسد كل ابواب التحايل والتبرير.
ثانيا: تقنين وصية الدفن ليلا رؤى سياسية لغايات مستقبلية:
كانت الوصية الاخرى المهمة التي اوصت بها الزهراء هي ان تدفن ليلا فأوصت قائلة :(( انني أوصيك في نفسي وهي احب الأنفس الي بعد رسول الله إذا أنا مت فغسلني بيدك وحنطني وكفني وادفني ليلا..)). ان هذه الوصية في حقيقة الامر تفرض علينا طرح العديد من التساؤلات لبيان القصدية في طلبها هذا ، ولعل اهم التساؤلات:
لماذا يا ترى اوصت ان يكون دفنها ليلا ؟ لماذا الليل دون غيره؟ ما هو سر الليل في فكر السيدة الزهراء ؟ ويمكن الاجابة عن ذلك بالقول:
1-ارادات ان لا يعرف عدوها وكل من ظلمها موضع دفنها لأنها تعلم ان من سلب حقها في حياتها سيفعل ذلك بعد غيابها وسيسلب حقها بان ينبش قبرها او سيضيع موقع قبرها ليس فقط يقتصر على عدوها ذاته وانما قد يشمل حتى اتباعهم بعد غيابهم ونجد هذا الامر بدء واضحا حينما علم عدوها وظالمها بدفنها ولم يصلوا عليها فأرادوا نبش قبرها، وهذا الامر ان دل على شيء فإنما يدل على معرفة الزهراء بطبيعة نفوس هذه الشخصيات وعقليتها الجاهلية وحقدها الدفين.
2- اما السبب في اختيار الدفن ليلا فيمكن ادراك اجاباته من خلال طرح بعض الآراء ومنها:
أ-ان في الليل تنام العيون وتهدأ الاصوات فلا احد يعلم ويرى ما يعمل به لظلمته، كما أن الليل لباسا وسكنا للأرواح فاختارت الليل ان يكون سكنا لنعشها المظلوم ولروحها المهضومة التي لم تر مبتسمة الا حينما تم اختيار نعشها وعلمت بساعة خروجها من الدنيا.وهو بذلك خلافا لظلمة الانسان الذي ظلمها فعلى الرغم من ظلمة الليل الا أنه انصف حقها فكان سكنا لروحها الطاهرة في اخفاء سرها وتثبيت حقها.
ب-ارادت ان تتم حجتها على ظالميها بظلام الليل وتبين انصارها من اعداءها والا فإن من غير المعقول من له انصار ومحبين ان يشيع ليلا ولا يحضر جنازته الا نفرا قليلا. مذكرة بذلك موقف من رفض طلبها حينما خرجت مع امير المؤمنين ودارت على البيوت طلبا لنصرة امير المؤمنين والتي لم يستجيب لها في تلك اللحظة غير هؤلاء النفر اليوم الذين شاركوا في تشييع جنازتها والصلاة عليها ، ولذلك حينما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن علة دفن السيدة الزهراء ليلا :لأي علة دفنت فاطمة بالليل ولم تدفن بالنهار؟ قال ((لأنها أوصت ان لا يصلي عليها الرجلان الاعرابيان)). كما كرهت حضور من ظلمها إذ روي عن الأصبغ بن نباتة قال :(( إنها كانت ساخطة على قوم كرهت حضورهم جنازتها وحرام على من يتولاهم أن يصلي على أحد من ولدها)) .
و نجد في المقابل ان عدوها اختلق بعض الحجج لتبرير موقفهِ الظالم و لكن زاد موقفه ظلما واجحافا حينما حاول نبش قبرها بحجة الصلاة عليها، و هذه الصورة تستوقف العقول وتحير الاذهان ! وتدعنا نطرح العديد من التساؤلات امام ذلك ومنها:
لماذا يا ترى حاول ابي بكر وعمر واتباعهم نبش قبر السيدة فاطمة الزهراء دون غيرهم؟ ما علاقتهم بهذه المرأة؟ ألم توصي بان لا يصليا عليها؟ ألم تعلمهما بغضبها عليهم وعدم رضاها؟ أذن ما هو الدافع الفعلي الذي حدا بهما لان يعملا هكذا؟ كما ان هناك تساؤل آخر ألم تكن هناك وسيلة أخرى ليعدلا من خلالها موقفهما غير نبش القبر؟ فهل من حقوق حفظ حرمة الميت نبش قبره واخراجه ؟ وهل من حفظ حرمة الميت ان تخالف وصيته، أليست الوصية حق من حقوق الميت؟ أَلَم يَقُلِ الله عَزَّ وَجَلَّ : (( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) .
بقلم: المبلغة حنين راضي
مجمع المبلغات الرساليات فرع البصرة