بقلم آية الله السيد الأستاذ فاضل الجابري
التواضع في اللغة:
“تواضع: تذلّل، وتخاشع” بعد ألّا يرى لنفسه فضلا ورفعه على غيره. ( القاموس المحيط: ص 713.)
التواضع في الاصطلاح:
هو “انكسار النفس [الذي] يمنعها من أن يرى لذاتها مزيّة على الغير وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر”(جامع السعادات: ج 1، ص393.).
وبعبارة أخرى: “هو لين الجانب والبعد عن الاغترار بالنفس فكأنّ المتواضع قد كلّف نفسه أن يضعها دون منزلتها التي تستحقها… ولذلك قالوا أنّ التواضع هو اللين مع الخلق والخضوع للحق وخفض الجناح” (موسوعة أخلاق القرآن: ج1، ص 68.).
أصل التواضع:
وأصل التواضع من إجلال الله وهيبته وعظمته، وليس لله عز وجل عبادة يقبلها ويرضاها إلا وبابها التواضع، ولا يعرف ما في معنى حقيقة التواضع إلا المقربون من عباده المستقلين بوحدانيته. قال الله سبحانه: “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” 4. وقد أمر الله عز وجل خلقه وسيد بريته محمد (ص) بالتواضع فقال سبحانه “واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين” 5.
والتواضع مزرعة الخضوع والخشوع، والخشية والحياء وأنهن لا يأتين إلا منها وفيها، ولا يسلم الشرف التام الحقيقي إلا للتواضع في ذات الله تعالى.
التواضع في القرآن الكريم:
لم ترد كلمة التواضع بلفظها في القرآن الكريم ولكن وردت كلمات تشير إليها… فالله تعالى يقول: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [الفرقان: 63] أي: يمشون على الأرض هيّنين أو يمشون مشيا هيّنا؛ لأنّ الهون – بفتح فسكون – هو الرفق والسهولة.
وأيضاً يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54] والمراد بالذل في الآية الكريمة الرحمة والشفقة واللين وليس المراد بها الهوان”.
التواضع في السنة الشريفة:
وقال (ص) لأصحابه: “ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟”. فانبروا قائلين: ما حلاوة العبادة؟، فقال (ص) :التواضع”.
وقال (ص) :”أربع لا يعطيهن الله إلا من يحبه: الصمت وهو أول العبادة، والتوكل على الله، والتواضع، والزهد في الدنيا”.
فقد أثر عن النبي (ص) أنه قال :”ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”
الامام الصادق والتواضع :
بهذه الروح العالية ساد الإسلام في تربيته وسما في تعاليمه وأخلاقه. وتحدث الإمام الصادق (ع) عن شرع التواضع، فقال: “التواضع أصل كل شرف نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان التواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق في مخفيات العواقب، والتواضع ما يكون لله وفي الله. وما سواه فكبر، ومن تواضع لله شرفه الله على كثير من عباده، ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السماوات من الملائكة وأهل الأرض من العارفين. قال الله عز وجل :”وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم”
وألمّ حديث الإمام (ع) بواقع التواضع الذي يثاب عليه عند الله، ويستحق به الأجر، وذلك فيما إذا تجرد عن جميع النزعات المادية، وقصد به وجه الله تعالى خالصا من كل شيء.
ومن مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات وحبه للتواضع وهو سيد المسلمين، وإمام الملايين، وكان من تواضعه أنه كان يجلس على الحصير[النجوم الزاهرة : 5 / 176 .]، وكان يرفض الجلوس على الفرش الفاخرة، وكان ينكر ويشجب المتكبرين حتّى قال ذات مرة لرجل من إحدى القبائل: « من سيد هذه القبيلة ؟ فبادر الرجل قائلا: أنا، فأنكر الإمام (عليه السّلام) ذلك، وقال له: لو كنت سيدهم ما قلت: أنا . . »[ الطبقات الكبرى : 1 / 32 .].
ومن مصاديق تواضعه ونكراته للذات: أن رجلا من السواد كان يلازمه، فافتقده فسأل عنه، فبادر رجل فقال مستهينا بمن سأل عنه: إنه نبطي . . . فردّ عليه الإمام قائلا: « أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون . . . » .فاستحيى الرجل[حياة الإمام الصادق ( عليه السّلام ) : 1 / 66 عن مطالب السؤول .].
وقد بين الإمام الصادق (عليه السلام) المنشأ النفسي للتكبر في عبارة قصيرة واضحة إذ قال: (ما من أحد يتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه)( الكافي: ج3، ص461.).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه . الكافي: ٢ / 122 / 2.
وجدير بالذكر أن التواضع الممدوح، هو المتسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فالإسراف في التواضع داع الى الخسّة والمهانة، والتفريط فيه باعث على الكِبر والأنانية.
وعلى العاقل أن يختار النهج الأوسط، المبرّأ من الخسّة والأنانية، وذلك: بإعطاء كل فرد ما يستحقه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهلاته.
لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم.
السيد فاضل الموسوي الجابري
النجف الأشرف 23 شوال 1444هـ
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية