جلست أمس وحدي في زاوية من زوايا مبنى معهد الشيخ الوائلي للخطابة بالنجف الأشرف – بعدما ألمّ به حريق يوم ٧ محرم – على كرسي متداعٍ نجى من ألسنة النيران، وأنا أستعين بالله تعالى على تجاوز ما أنا فيه، ومذكّراً نفسي بمواقف مخدومي الإمام الحسين (ع) ودروس نهضته ثم مسيرة زيارة الأربعين المليونية الهائلة اللافتة.
وقلت في نفسي: لِمَ لا أستمع لقصيدة (يحسين بضمايرنا) فهي تشعرني بالقوة وتدعمني بالمنعة وتذكرني بروح التحدي مشوبة بذكريات المعاناة التي كنت قد عشتها أيام دراستي الجامعية في الزمن البعثي اللئيم في سبعينيات القرن المنصرم، ورحت أردد كلماتها مع نبرات صوت الرادود الحسيني الملهم الراحل المرحوم المبدع الملا ياسين الرميثي، المنطلق من جهازي النقّال، وأنا أردد كلماتها حيث لا أزال أحفظها عن ظهر قلب منذ انطلاقتها والحمد لله.
ثم إني لا أعلم كيف انتقلت من وضعي هذا – لعلّه ما يعرف بمصطلح تداعي المعاني – الى يوم قرأتها بمحضر العلّامة السيد مرتضى العسكري رفع الله درجته حينما دعيت لإحياء مجالس العشرة الأولى من المحرم ١٤٠٤ هج / ١٩٨٣ م، في داره بمنطقة شمرانات شمال العاصمة الإيرانية طهران، وكانت داره هذه عبارة عن مركز أبحاث ودراسات وفيها موظفون وكتّاب، والمصادر والمراجع تحيط بك من جوانبها الأربعة وزواياها المربعة.
وفي أول لقاء لي بسماحته وقبل شروع مجالسنا، نظر إلي متفحصاً وسائلاً: أنت خطيبنا هذا العام؟ فقلت: نعم سيدنا إن شاء الله، فأردف شارطاً وقائلاً: هناك شرائط ثلاثة عليك الالتزام بها !! قلت: تفضلوا سيدنا، فقال رحمه الله: أن تبدأ كل مجلس بقصيدة من قصائد السيد حيدر الحلي، وثانياً النعي والرثاء يكون بالفصحى ولا أريده باللهجة الدارجة، وثالثاً أترك الروايات الضعيفة ولا تذكر إلا الرواية الصحيحة !!!
فقلت مردّداً ولقولي مؤكداً: سيدنا أما الأولى والثانية فنعم هو إجابتي، وأما الثالثة فلا أقوى عليها ببداهة أني في بداية حياتي الحوزوية ودراستي، ولست بقادر على تمييز الروايات صحة وضعفاً، ولكني سأعتمد على كتبكم سيدنا (مقدمة مرآة العقول ومعالم المدرستين)، فحرّك سماحته رأسه مبدياً رضاه ومعلنا موافقته، وقضي الأمر واستويت على المنبر وقلت الحمد لله رب العالمين !!
وكانت تجربة رائعة لي وأنا في بداية حياتي الخطابية وفي سنتي الثانية منها، اذ كانت توجيهاته السابقة ثم إشاداته اللاحقة بما أطرحه، خير مشجع ودافع وإلى ما هو صحيح ونافع.
وكان السيد رحمه الله يقاطعني مراراً وأنا على المنبر ليقول: أحسنت أحسنت هكذا ينبغي أن يكون خطيب المنبر الحسيني، فكنت احمد الله تعالى على ذلك كثيراً.
كما أني كنت قد استعنت كذلك في محاضرات مجالسي هذه، بمؤلفات العلاّمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، ثم سررت بما سمعت لاحقاً من إطراء السيد العسكري عليها بقوله رحمه الله: من الصعب أن يكتب أحد عن الحسين (ع) بعدما كتب الشيخ شمس الدين ما كتب، هكذا كان رأيه، فما أروع الروح العلمية في تقويم الآخر وإبراز مواقع تألقه وسابقته والإقرار بعلميته وفضيلته!!.
وكان حضور هذا المجلس نخبة من الأساتذة والعلماء وشخصيات عراقية مهاجرة بارزة، فكان امتحاناً حرجاً لقدراتي المنبرية وإمكانياتي اللغوية.
ثم أن السيد رحمه الله طلب مني أن أقرأ نصّ مقتل الحسين (ع) ومصرعه صباح يوم العاشر من المحرم (عاشوراء)، فاستجبت لطلب سماحته ،وهذا ما تم ووفقت له في سرد أبرز أحداث كربلاء مع الشعر الرثائي المناسب.
ولكن أحد وجوه الحاضرين وبعد انتهاء قراءتي للمقتل الحسيني، انبرى إلى سماحة السيد العسكري مخاطباً وعليه مقترحاً وقائلاً وبصحيفة الج هاد العراقية التي كانت بيده ملوًحا – وقد نشرتْ نص قصيدة (يحسين بضمايرنا) – للشاعر الحسيني الرسالي الخالد المرحوم الحاج عبد الرسول محيي الدين، وهو يقول: سيدنا أطلب من الشيخ الكاظمي أن يقرأ لنا هذه القصيدة فالشيخ يحفظها.
وتبين أن السيد العسكري لم يكن قد سمع بهذه القصيدة مسبقاً، فراح الحاضرون يشيدون بالقصيدة وكيف أنها صارت نشيد الحناجر الحسينية الصادحة وهي تقارع إجراءات النظام البعثي المجرم في محاولاته للقضاء على ارتباط الأمة بكربلاء ونهضتها، حتى صارت شعاراً يردّده الشبان المؤمنون في زنزانات صدام وزبانيته، فالتفت إليً السيد وطلب مني قراءتها.
ورحت أقرأ قصيدة الولاء الهادفة الخالدة: “يحسين بضمايرنا صحنا بيك آمنا”، وهي القصيدة الحسينية الشعبية الوِتر التي لم تلف لها شفعا من قصيدة ثانية، فرحم الله شاعرها ثم منشدها، وعرّف بينهما وبين الحسين (ع).
ثم أني ذهلت لما رأيت من تفاعل غريب، مشوب بصرخة ونحيب، من العلّامة العسكري مع وقع كلمات القصيدة وأبعادها، وعمق معانيها الفريدة ورسالية مداليلها الأكيدة، حتى راح السيد يلطم بكلتي يديه على عمامته، وكان من حوله يلدمون صدورهم، وأخذت الدموع من المحبين الحاضرين سبيلها جريانا والأصوات مداها نحيباً.
حتى اذا وصلتُ إلى قراءة البيت: “على هاذي العقيدة نسير / الحاضر واليجي والغاب”، واذا بالسيد العسكري يرفع صوته طالبا إعادتها ولأكثر من مرة … لقد أخذ مني العجب مأخذه ؛ حيث لم أتوقع شدة تفاعله هذا، وكما هو حال الحاضرين الآخرين الذين شاركوني دهشتهم وشاطروني حيرتهم، اذ لم أكن لأتصور أن القصيدة ستأخذ هذا المدى وتؤثر هذا التأثير في السيد المحقق مرتضى العسكري قدس الله نفسه.
وما إن انتهيت من قراءة قصيدة يحسين بضمايرنا حتى قال سماحته صارخاً: ” إن شعباً فيه مثل هذا الشاعر لن يموت أبدا” !!!
وصدقتْ نبوءتك يا سيدنا فهذا الشعب العراقي – شعب الإمام المهدي (عج) – شعب الولاء والعطاء ها هو هذه الأيام يسطّر ملاحم حسينية رائدة، ويؤسس مواقف ولائية خالدة، ويسجّل أرقاما قياسية واعدة، في التضحية والإيثار والبذل والجود والكرم، وابتكار أدق تفاصيل النبل والندى، وتأسيس أساطير المودة وملاحم المسامحة ومعادلات المواساة، ورحم الله من أحيا أمرنا.
فيصل الكاظمي
النجف الأشرف
٨ صفر ١٤٤٥/ ٢٥ آب ٢٠٢٣
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية