أولاً: إن سعيد بن جبير صوت عال ضد الظالمين، وكان من أوائل الثائرين على السلطة الأموية، وهو أنموذج للعالم الثابت على مبادئه، والملتزم بقيمه، والصلب في طريق الحق، وغير الراضخ للمغريات والتخويفات، فقد كان يرفع صوته قائلاً: “قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين”، وفي هذا درس لكل مؤمن مبدئي ألا يقف على جرف هار، مع أن الضرائب في طريق ذات الشوكة كثيرة وكبيرة لكنها بعين الله تعالى، و هو مع عبده المؤمن دائماً مادام المؤمن في معية ربه دائماً.
ثانياً: متى صح الإيمان ورسخت حلاوته في قلب المؤمن، رزقه الله تعالى الثبات في كل أمر معضل ومحزن يمر عليه، وكلما كان المؤمن صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما ازداد ثباتاً على المبدأ، وقويت عزيمته (سعيد بن جبير أنموذجاً).
ثالثاً: دعاء المظلوم مستجاب، وهو أحد ضمانات النصرة للمستضعفين، فليحسن العبد ظنه بعبده، وليطمئن أن الله تعالى لا يقبل بالظلم، وهو تعالى ينتصف للمظلوم ولو بعد حين، فليكن دعاء من يرتجي مدد النصرة من الله جل جلاله إذا وقعت عليه ظلامة؛ خصوصاً إذا لم يستطع رفعها ودفعها (حسبي الله ونعم الوكيل).
فقد دارت بين الحجاج وسعيد بن جبير محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها انتهت بقول الحجاج غاضباً: “أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك”، فقال سعيد: “اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي”. ثم قال: “اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي”، وقد استجاب الله دعاءه فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: “مالي ولسعيد”! ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيداً فزعاً مرعوباً حتى مُنع من النوم وكان كلما نام رآه آخذاً بمجامع ثوبه يقول: “يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول مالي ولابن جبير؟ ولم يزل متلبساً حتى هلك”.
رابعاً: الشجاعة: هي عدم تنازل الإنسان المؤمن عما يراه في رضا الله تعالى، وعدم التراجع عما يرضي الله جل شأنه، وعدم قبوله بالخطأ والظلم واستبدال القيم وتزييف الشعارات لأنه خيانة لله تبارك اسمه؛ وبعد عما يريده منه ، وإن كان ثمن هذه الشجاعة باهضاً، وضرائبها قد تدفع طويلاً.
روي أن الحجاج قال لسعيد: ويلك يا سعيد! سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك مائة قتلة في الآخرة.الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟ سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر. الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه.
خامساً: يعتبر التسليم للبلاء الواقع بسبب الظلم بلا انكسار ولا تذلل ؛ عزة ورفعة وصلابة إيمان وذوبان في الله تعالى، ورد أنه لما اخرجوا سعيد بن جبير ليقتلوه؛ بكي صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ الرجل: لما أصابك. سعيد: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد:22].
سادساً: العروض الدنيوية كثيرة ومغرية، وحبالها طويلة قد تجذب بعض المؤمنين تدريجياً، وتجعله بمرور الزمن يتنازل عن بعض ثوابته، ويتجرد عن بعض قيمه ومبادئه لأجل فتات الدنيا ونعيمها المحدود، كما صنع الحجاج مع سعيد بن جبير، فقد أغراه بالمال والدنيا ليثنيه ويكسر هيبته ويرضخه له، لكن سعيداً كان عالماً مؤمناً اخروياً أفهمه وافحمه أن المال وسيلة لإصلاح الأعمال وصلاح الآخرة وليس ثمناً لبيع المواقف.
رضوان الله تعالى على سعيد بن جبير
العالم الثائر الشهيد
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الأشرف
٢٥ ربيع ١ _ ١٤٤٥ هج
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية