كان الإمام الباقر عليه السلام في حياته وهو يمثل قمة الهرم في المجتمع الإسلامي ( منصب الإمامة ) ، ويضطلع بمهام القيادة الدينية الشرعية ، كان يتحرّك في كلّ القضايا الإسلاميّة التي تعيشها الأمة ، و بقدر ما تسمح له الظروف ، وتتاح له الفرص الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة ، بالأسلوب الحكيم ، والسبيل السلمي ، و لم يكن عليه السلام معزولا عن الساحة الإسلامية ، أو بعيدا عن احداثها السياسية ، بل كان ضمن اهتماماته و أولوياته مراقبة الشأن السياسي ، ومتابعة التّحدّيات التي تواجه الدّولة الأمويَّة ، رغم التقاطع و العلاقة السلبيَّة
بينه وبين الامويين . وذلك لأن من الوظائف الهامة للقيادة الدينية ، هي المراقبة للساحة السياسية ، لتوجيه بوصلة الأحداث التي تمر بها الأمة ، مراعاة للمصالح العليا للمسلمين ، وهذا عين ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله ، على امتداد حكومة الخلفاء الثلاثة ، وسار عليه الائمة المعصومون عليهم السلام من بعده .
وقد ذكر التاريخ الإسلامي ، أنَّ الحاكم الأموي للدولة الإسلامية انئذ عبد الملك بن مروان واجه تحدّياً سياسيا و اقتصاديا حرجا وحساسا في موضوع العملة النقدية الرومية المتداولة في سوق المسلمين .
ملخص الموضوع :
___
أن عبد الملك بن مروان امر المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها على أن يطرزوها بشعار التوحيد ، ويكتبوا عليها َ( شهد اللّه أنه لا إله إلّا هو ) ، وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ، أي الشعار المسيحي الأب والابن والروح ، ولما علم ملك الروم استشاط غضبا ، وطلب منه التراجع عن ذلك، وهدده إنه سيأمر بنقش الدنانير والدراهم التي كانت تضرب في بلاد الروم ، ويتعامل بها في كل البلدان ، بشتم النبي صلى الله عليه وآله ، فلم يجد عبد الملك بن مروان حلا عند أحد لهذه المعضلة الكبيرة والخطيرة إلا عند الإمام الباقر عليه السلام ، فقدم له الحل :
( لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين : إحداهما ان اللّه عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله ، والأخرى وجود الحيلة فيه ،
( تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككا للدارهم والدنانير ، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله أحدهما في وجه الدرهم ، والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنّة التي يضرب فيها ….، وأمره بضرب السكة على هذا اللون في جميع مناطق العالم الاسلامي ، وأن يكون التعامل بها ، وتلغى السكة الأولى ، ويعاقب بأشد العقوبة من يتعامل بها ، وترجع إلى المعامل الاسلامية لتصب ثانيا على الوجه الإسلامي .
وامتثل عبد الملك لذلك ، فضرب السكة حسبما رآه الإمام الباقر عليه السّلام ، ولما فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده ، وخاب سعيه ، وظل التعامل بالسكة التي صممها الإمام ابو جعفر عليه السلام حتى في زمان العباسيين) ([1]).
وهنا قام الإمام باقر العلم عليه السلام بأسمى خدمة للعالم الاسلامي ، و حرّر النقد من التبعية للإمبراطورية الرومية ، وجعله مستقلا بنفسه يحمل الشعار الاسلامي ، وقطع الصلة بينه وبين الروم.
دروس وفوائد
____
1 _الحلول دائما عند ال محمد عليهم السلام ، ولا يمكن أن تحصل الأمة الإسلامية ، و على امتداد تاريخها من رحيل النبي صلى الله عليه وآله ؛ وإلى يوم القيامة على فكرة كاملة سديدة ، أو وجهة نظر دينية او سياسية او اجتماعية او فكرية او اقتصادية متكاملة الجوانب الا من بيت الإمامة ،ومهبط الوحي ، وعدل الكتاب.
روي عن رسول الله صلى الله وآله : ( إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا، حتى يردا عليَّ الحوض) ([2]).
وعنه صلى الله عليه وآله :(مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك) ([3])
2 _ مهما كانت الشهادة العلمية عنوانا بارزا ، والتخصص العلمي الذي يحمله الإنسان المسلم مرموقا ، لكن تبقى الجهة الدينية المتمثلة بنائب المعصوم ، وهو الفقيه المرجع الديني المثقف المحيط بضرورات الزمان والمكان، والابصر بمتطلبات المرحلة ، تكون له مرجعية القرار الديني الذي يرشد ضروريات مسيرة الأمة السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها. (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) ([4])
3 _ عدم الابتعاد عن المرجعية الدينية الرشيدة الشاهدة على مسيرة المجتمع ، والاكتفاء بما اكتسبه بعضهم من مناصب واموال وعلاقات وتجارب ، وهذا ما يفعله بعض الإسلاميين ، بتوهم القدرة عل إدارة أمور الأمة ، وتوجيه قراراتها المصيرية في السياسة ، بمعزل عن القرار الديني الحكيم المرشد المبرء لذمة المكلفين ، والمبتني على الادلة الشرعية ، وبمعية مشورة ذوي التخصص من اهل العلوم الحديثة الأمناء في رأيهم ، والمخلصين لدينهم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : ( العلماء أمناء الله على خلقه) ، (العلماء امناء أمتي )، ( العالم أمين الله في الأرض) ([5])
4 _هذا الاستذكار لهذا الرواية ، وبيان الدور السيتراتيجي للامام المعصوم عليه السلام ، في بعض فوائده ؛ يعزز العلاقة بين المؤمنين و الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف ، ويشدهم أكثر وأكثر نحو شخصيته و قيادته ، ويزيد في رصيد التفاعل الأخلاقي والفكري والحركي معه سلام الله عليه ، ويسكن بعض الآلام الغيبة في قلوبهم ، ويستمطر بركاته والطافه عليهم ، حين تعصف بهم الفتن الجارفة ، والمشاكل المعقدة ، الفردية والاجتماعية . وهذا يعزز ثقافة الانتظار ويقوي همة التمهيد لظهوره عليه السلام ، ويزيد من قابلية التكامل لليوم الموعود.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: وقد سئل : ( هل ينتفع الشيعة بالقائم عليه السلام في غيبته ؟
قال : ( إي والذي بعثني بالنبوة إنهم لينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب ) ([6])
السلام على الإمام الباقر ورحمة الله وبركاته .
___
الهامش :
([1]) حياة الحيوان ، الدميري ، ج1 ص91 – 92 ، المحاسن والأضداد ،البيهقي ،المطالعة العربية ، ج 1 ص31 .
([2]) مسند أحمد بن حنبل، 18/114، برقم: 11560.
([3]) بحار الأنوار، المجلسي ، ج 23 ص 124.
([4]) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ج27 ص 14.
([5]) ميزان الحكمة، الريشهري ، ج 3 ص 2088.
([6]) ميزان الحكمة ، الريشهري ، ج1 ص 184.
_____
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الاشرف
ليلة شهادة الإمام الباقر عليه السلام
ذي الحجة 1445 هج