عندما نقرأ حياة وشهادة العالم المقدس ميثم بن يحيى التمار (رضوان الله عليه) في 22 ذي الحجة سنة 60 هج، تستوقفنا عدة وقفات رسالية في رحاب شهيد الحب العلوي وقربان الولاء الخالص والعقيدة الكاملة:
أولاً: جدارة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وربانية تربيته لحواريه ومقربيه وخلاصة أصحابه وتلامذته وحاشيته، فأحد مصادر دراسة شخصية الأستاذ هو دراسة شخصيات تلامذته الذين تربوا تحت ظله، ونهلوا من علمه، وتعتبر هذه المحطة من كواشف أعلمية الإنسان وجدارته وكفاءته؛ حيث أن مدرسته العلمية ممتدة بطلابه الأكفاء، ومتميزة بوجودهم وعطائهم وجلالة مقامهم العلمي.
فميثم التمار تلميذ الإمامة، وربيب مجلسها العلمي، ورفيق دربها الجهادي، وثمرة من ثمار خطابتها، وجندي وفي وعامل من عمالها، فقد كان (رضوان الله عليه) من أصحاب الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين (عليهم السلام)، وكان من شرطة الخميس في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، وكان خطيب الشيعة بالكوفة ومتكلِّمها، في مرّة قال لابن عباس: (سلني ما شئت من تفسير القرآن، فإنِّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وعلَّمني تأويله) ([1]).
ثانياً: ميثم التمار وغيره من الحواريين كان يلتقطهم أمير المؤمنين (عليه السلام) كالجواهر من بين ذرات التراب، ويوليهم الرعاية العلوية التي تصنع الكفاءة، وتحافظ عليها، وتقدمها إلى المجتمع، فالقائد الإلهي يربي الناس من حوله، ويرفع درجاتهم، ويستقطب الأنموذج منهم؛ فيحولهم إلى عظماء في الدين والعلم والشجاعة والثبات، حتى لا تكاد ترى أمثالهم في الثبات على المبدأ والصمود حتى الشهادة.
فميثم الذي كان عبداً لامرأة من بني أسد، اشتراه الإمام علي (عليه السلام) منها، وأعتقه، وقال له: (ما اسمك)؟ فقال: سالم، فقال (عليه السلام): (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني أنّ اسمك الذي سمّاك به أبوك في العجم ميثم)، فقال ميثم: صدق الله ورسوله، وصدقت يا أمير المؤمنين، فهو والله اسمي، قال (عليه السلام): (فارجع إلى اسمك، ودع سالماً، فنحن نكنّيك به) ([2]).
هذا العبد الذي أصبح حوارياً لعلي بن ابي طالب (عليه السلام)، وعالماً أودعه الإمام علوم البلايا والمنايا،
هذا نتاج مدرسة الإسلام العلوية الأصيلة، فهل لغير علي بن أبي طالب (عليه السلام) ممن كانوا قادة وحكاماً وخلفاء هكذا تلامذة، وهكذا امتداد علمي رباني، وقد كانت كل الإمكانيات بأيديهم وكان الناس تحت سلطانهم.
ثالثاً: من كواشف عظيم مقام التمار هو ثناء الأئمة المعصومين (عليهم السلام) علي شخصيته، فالمقيم _ بكسر الياء _ أعلى رتبة ومقاماً وشأناً من المقيم _ بفتح الياء _ وكلام الأول وهو المعروف بالإنصاف وعدم الهوى في التقويم، وهو يكون كاشفاً عن فضائل ومقامات شخصية الثاني، روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حواري محمّد بن عبد الله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر، ثم ينادى مناد: أين حواري علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصى رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فيقوم عمرو بن الحمق، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار ـ مولى بني أسد ـ، وأويس القرني).
قال : (ثم ينادى المنادى: … فهؤلاء المتحوّرة أوّل السابقين ، وأوّل المقرّبين ، وأوّل المتحوّرين من التابعين) ([3]).
رابعاً: الثبات عى المبدأ، وعدم التزلزل عن الخط الإسلامي الأصيل، وسلامة الضمير، ووعي المسؤولية، والتزام سمت الحق، من صفات الشخصية التي محضتها التجارب، ونضجتها الاختبارات، ونهلت من معين القيادة الأصيلة، هكذا كان شهيدنا التمار من هذا النمط الذي كان ولا يزال عملة شبه نادرة في سوق المصالح الدنيوية، وبيع الدين بالدنيا، وتلبس الحق بلباس الباطل، وتحويل القيم إلى سلع للتسويق من أجل أرباح المنصب والمال والوجاهة.
قال ميثم : دعاني أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقال: (كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أُمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة منّي)؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا والله لا أبرأ منك، قال: (إذاً والله يقتلك ويصلبك)، قلت: أصبر فذاك في الله قليل، فقال: (يا ميثم إذاً تكون معي في درجتي)([4]).
خامساً: الناس في تعاملهم مع الموت ثلاثة أصناف:
1 _ يتعامل مع الموت بخوف، وهذا سهل الانقياد والاستسلام والرضوخ للطغاة والظلمة.
2 _ يواجه الموت بصبر ومقاومة ويتحدى الظالمين بالموت.
3 _ يواجه الموت بالشوق، وبجد السعادة في الموت، لأنه لقاء الله تعالى الذي هو راحة كل نبي ووصي و شهيد.
وشهيدنا التمار ممن وطن نفسه على الموت، وكان يشتاق إليه لأن فيه لقاء الله والسعادة برضوانه، فقد التقى بأُمّ سلمة (رضي الله عنها) في حجه في السنة التي قُتل فيها، فدخل عليها، فقالت له: ((من أنت)؟ فقال: عراقي، فسألته عن نسبه، فذكر لها أنّه كان مولى الإمام علي (عليه السلام).
فقالت: (سبحان الله، والله لربَّما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بك علياً في جوف الليل)، ثمّ دعت بطيب فطيَّبت لحيته، فقال لها: أما أنَّها ستخضَّب بدم، فقالت: (من أنبأَك هذا)؟ فقال: أنبأَني سيِّدي، فبكت أُمّ سلمة وقالت له: (إنّه ليس بسيِّدك وحدك، وهو سيِّدي وسيِّد المسلمين)، ثمَّ ودَّعته) ([5]).
سادساً: من علامات الإنسان المبدئي الذي يخوض غمار المواجهة مع الباطل وهدفه هو الله تعالى، هي قوة الشخصية، وتفانيها في سبيل الله إلى النفس الأخير، وهو درس عظيم لكل من يعتبر نفس حاملاً المبدأ وثابتاً عليه، هكذا كان التمار المصلوب ينادي بفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكراماته وهو مقطع اليدين والرجلين على جذع النخلة التي اتخذ منها منبراً للحق، ومنصة لبيان الحقيقة، حتى قطعوا لسانه واستشهد.
روي أن الإمام علي (عليه السلام) أخبر ميثماً بقتله: (إِنَّك تُؤخَذ بعدي، فتُصلَب وتُطعَن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً، فيخضِّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة، وامض حتَّى أريك النخلة التي تصلب على جذعها).
فأراه إيَّاها، ثمّ قال (عليه السلام): (يا ميثم، لك ولها شأناً من الشأن)، فكان ميثم يأتيها ويصلِّي عندها، ويقول: بوركت من نخلة، لك خلقت، ولي غذِّيت، ولم يزل يتعاهدها حتَّى قطعت، وحتَّى عرف الموضع الذي يصلب فيه) ([6]).
استشهد ميثم (رضي الله عنه) في الثاني والعشرين من ذي الحجَّة سنة 60 هـج، أي: قبل وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء بعشرة أيّام.
علو في الحياة وفي الممات
لحق أنت إحدى المعجزات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوبَ السافيات
سلام عليك يا شهيد الولاية ورحمة الله وبركاته
الهامش:
([1]) اختيار معرفة الرجال ، الطوسي، ج1 ص 294 .
([2]) الغارات ، الثقفي ، ج 2 ص 797 .
([3]) الاختصاص، المفيد ص : 61 .
([4]) اختيار معرفة الرجال، الطوسي، ج1 ص 295 .
([5]) الغارات، الثقفي، ج2 ص 798 .
([6]) الإرشاد، المفيد ، ج 1 ص 333.
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الأشرف
ليلة 22 ذ ح _ 1445 هج