(الدعاء شخصية المؤمن.. الإمام السجاد أنموذجاً)
إنّ الصحيفة السجاديّة المباركة التي تركها الإمام السجاد (عليه السلام) جاءت لتشكّل منهجاً إسلامياً رائداً، بحجم المسؤولية التي اضطلع بها في قيادة المرحلة، وبحجم دوره الكبير كمحور للشريعة الإسلامية، وممثل عن رسالة جده (صلى الله عليه وآله). وهي جزء فاعل أساس من المشروع التغييري في جسد الأمة الروحي والأخلاقي والتربوي والفكري والاجتماعي الذي يقوده أهل البيت (عليهم السلام) على أرض الواقع، ويمثل الإمام السجاد حلقة قيادية فيه بعد أبيه سيد الشهداء (سلام الله عليهما).
هذه الظاهرة الدعائية التي تميز بها الإمام زين العابدين عليه السلام، هي:
1 _ ليست حالة من الانكسار النفسي، أو التصدع الروحي الذي يتولد عند من تقع عليه مصيبة معينة، أو تحل عليه فاجعة مؤلمة، أو يصاب بكرب عظيم.
2 _ ليست هروباً من الواقع السياسي الذي عاشه الإمام المعصوم روحي فداه بعد واقعة كربلاء، ولا انكفاء على النفس بعيداً عن أي مواجهة مع الباطل، ولا اعتكافاً محرابياً بمعزل عن هموم المجتمع والأمة، ولا انسحاباً من أي صورة من صور المسؤولية التي ينتظر _بضم الياء _ من القائد أن يقوم بها.
3 _ ليست وسيلة لتحصيل المناقب الأخلاقية، ولا طريقاً لكسب الفضائل بين الناس، فما يصدر من الإمام المعصوم عليه السلام هو من ذاتياته، وما يتكلم به هو مرآة لكمالاته النفسية والروحية، وما يصنعه هو تعبير عن سجاياه الإلهية الكريمة، بعيداً _ وهذا مؤكد بلا مؤونة إقامة الدليل _ عن كل ما يتصور من علائق الدنيا، وأهدافها الموهومة، وغاياتها الزائلة.
الدرس الأول:
يربينا مولانا السجاد عليه السلام ونحن في ذكرى شهادته على الصدق الدائم في العلاقة مع الله تعالى، والتي يبرزها الدعاء، وتجليها المناجاة، وتعكسها تعابير الجوارح. فمن الروايات الكاشفة لهذا المعنى الجليل، والتي تختزن أبعاداً روحية عالية المضامين:
1 _ أنه سلام الله عليه كان يصفر وجهه عند الوضوء، وحين يقف بين يدي ربّه يقول: (أتدرون بين يدي من سأقف ومن سأناجي؟)([1]).
هذا يكشف للمؤمن الذي يسعى للكمال في عبادته؛ صورة الخشوع في الصلاة، والقائم على حضور القلب مع الله تعالى، لأن شعور المصلي بأنه واقف بين يدي الله سبحانه مع تذكر عظمته وهيمنته الكاملة على خلقه؛ يزيد من إحساسه بخشية الله جل جلاله.
2 _ ما رواه طاووس الفقيه: (رأيته يطوف من العشاء إلى سحر ويتعبد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد صلى الله عليه وآله في عرصات القيامة، ثم بكى وقال: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به على، فالآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني، فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين أحط، ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:
أتحرقني بالنار يا غاية المنى * فأين رجائي ثم أين محبتي.
أتيت بأعمال قباح زرية وما * في الورى خلق جنى كجنايتي
ثم بكى وقال: سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع، كأن بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم ….) ([2])
إن المتأمل في هذه الرواية يقف على إشارات نفسية دقيقة، ونفحات روحية صادقة، يقدمها الإمام السجاد عليه السلام لكل مؤمن ومؤمنة، لفهم طبيعة علاقة الإنسان مع الله تعالى، وإدراك كيف يتعامل الله جل شأنه مع عباده، وهي درس أخلاقي عملي تربوي توجيهي تهذيبي لتصحيح وتعميق علاقتنا مع الله سبحانه.
وللحديث صلة في رحاب مولانا زين العابدين عليه السلام.
الهامش:
____
([1]) إحقاق الحق، التستري ، ج11 ص 422.
([2]) بحار الأنوار، المجلسي، ج46 ص 81 _ 82.
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الأشرف
20 محرم 1446 هج
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية