استعرضنا في المقال السابق آراء فقهاء الشيعة الذين تمكنت من معرفة آرائهم في الحضانة، قبل سنة 500 هجرية.
ويمكن تلخيصها بثلاث آراء:
1-رأي الصدوق، وهو فقيه ومحدث، له كتاب (من لا يحضره الفقيه) أحد أهم مصادر الحديث عند الشيعة، فهو أعرف من غيره بأحاديث آل البيت (ع).
حكم بكون الحضانة للأم ما لم تتزوج من دون فرق بين الذكر والأنثى.
2-رأي الشيخ المفيد، وملخصه: أن الحضانة للأم في الذكر سنتان، وفي الأنثى تسع سنين.
3-رأي الشيخ الطوسي، وهو فقيه ومحدث له كتابان في الحديث (الاستبصار، وتهذيب الأحكام)، حكم أن حضانة الولد للأم إلى سبع أو ثمان سنين، والبنت حتى تتزوج الأم.
ثم استقر رأي فقهاء الشيعة ومنذ عصر الشيخ ابن ادريس (543-598هـ)، على أن حضانة الأم للولد الذكر سنتين، وللبنت سبع سنين.
قال في السرائر، ج2، ص651: ((وإذا بانت المرأة من الرجل، ولها ولد منه، فإن كان ذكرا، فالأم أولى بحضانته من الأب، وأحق به مدة حولين، فإذا زاد على الحولين، فالوالد أحق به منها، فإن كان الولد أنثى فالأم أحق بها إلى سبع سنين، ما لم تتزوج الأم)).
وبه قال المحقق الحلي في الشرائع (ت/676)، ج2، ص567، والفاضل الآبي (ت/690) في كشف الرموز، ج2، ص201، والعلامة (ت/726هـ) في إرشاد الأذهان، ج2، ص40، وفي تحرير الأحكام، ج4، ص13، قال: ((إنّما تثبت الحضانةُ للأُمِّ حولين للذكر وسبعاً للأُنثى ما لم تتزوّج، فإن تزوّجت بغير الأب، سقطت حضانتُها عنهما، وكان الأبُ أولى بهما منها…)).
والشهيد في اللمعة، ص176، وابن فهد في المهذب البارع، ج3، ص426. والى يومنا هذا يفتي الفقهاء بهذه الفتوى، ولم أعثر على مخالف على حد اطلاعي.
وعمدة الدليل هو رواية داود بن الحصين الدالة بالنص على الحكم، ورواية أبي الصباح الكناني الدالة بالمفهوم، وسنعرض للروايات في هذا الباب في مقال قادم إن شاء الله تعالى، ولنا هنا على رأي ابن إدريس ملاحظات.
الأولى: أن الفقهاء ما قبل سنة 500هـ، هم أقرب الى عصر صدور النصوص عن الأئمة (ع)، وهم الذين رووا النصوص التي اعتمدها ابن ادريس وباقي الفقهاء من بعده، ولم يأخذ الأقدمون بها، فلو كانت عندهم مستوفيه لشروط الافتاء لأفتوا بها.
الثانية: دعوى الشيخ الطوسي الإجماع، وما أدرانا أنه لم يكن إجماعاً محصلاً فهو أعرف منا بفقهاء زمانه وما قبل زمانه وآرائهم، ووصلت إليه كتبهم، وإذا كان قد استعرض لنا آراء فقهاء السنة، فهل يعقل أنه لم يكن على علم برأي فقهاء الشيعة؟
وأما ابن إدريس فمن البعيد وصول كتب فقهاء الشيعة له بعد دخول السلاجقة إلى بغداد سنة 447هـ، وما حل بحوزة بغداد من دمار، أدى الى فرار الشيخ الطوسي نفسه الى النجف.
الثالثة: البيئة الحاضنة لفتوى ابن ادريس ومن تبعه من فقهاء مدرسة الحلة كانت بيئة عشائرية، حيث ولد ابن ادريس في ظل حكومة بني مزيد، وهم بطن من بني أسد، كانوا يسكنون أهوار جنوب العراق حتى عرفت بجزائر بني أسد، ثم صعدوا شمالا وسكنوا ناحية النيل أولا، وتمكنوا من تأسيس إمارة في النيل ثم انتقلوا الى الحلة، وتلت إمارتهم إمارة خفاجة.
ففقهاء الحلة كابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة عاشوا في بيئة عشائرية، والاتجاهات العشائرية معروفة في التعصب للعصبة والقبيلة، فربما تأثروا بالمحيط والبيئة الاجتماعية.
الرابعة: أن ابن ادريس نفسه لم يرو في مستطرفات السرائر، تلك الروايات التي استند إليها في كون الحضانة سنتين، بل روى رواية كون الحضانة للأم سبع سنين. (ينظر: مستطرفات السرائر، ص581)
وللكلام بقية.
الدكتور عبد الهادي الطهمازي