ألقى سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله)، بحثه التفسيري على طلبة الحوزة العلمية في مكتبه الشريف يوم الأربعاء الخامس من ربيع الثاني 1446هـ الموافق 9/10/2024 م بعنوان (أنجينا الذين ينهون عن السوء) الأعراف 165.
وهذه المحاضرة هي شرح وتفسير لبعض آيات القرآن الكريم من سورة الأعراف:
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (165).
لا أريد الحديث عن تفصيلات كل المحاضرة فهي مصورة وبإمكان الجميع الرجوع إليها إلا أنني أردت التركيز على بعض ما ورد فيها وأعتقد أنه يستحق التركيز لتنتفع الأمة من هذا الدرس البليغ، فالذي يلفت النظر في المحاضرة هو عقلية الفقيه القرآني عن غيره، وقد انماز المرجع اليعقوبي بجعل القرآن قائداً له، وقد وصفه ثلة من العلماء عندما اطلعوا على آثاره العلمية بأنه فقيه قرآني أي أنه يولي القرآن الكريم اهتماماً واضحاً، وهو بهذا يعمل بوصية الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) بأني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وبطبيعة الحال فإنه الزعيم على مستوى العلوم الأخرى من أصول وفقه وسيرة وتحقيق تاريخي وعلم رجال وفلسفة وغيرها.
من خلال تفسيره للآيات الكريمة يقتنص سماحة المرجع الثمار الطيبة ليجعلها درساً لطالبين الحقيقة، وليتضح الفرق بين من ينتهج القرآن الكريم كمنهج رئيس في قيادة الأمة. وهذه المحاضرة تغني طالب الحقيقة ومن يبحث عن الفقيه القرآني وسيجد الفرق واضحاً دون تجشم عناء البحث في خطابات ومحاضرات سابقة ففي هذه المحاضرة سيتجلى الفرق بوضوح.
الثمرة الأولى: على المستوى الأصولي: وهي تصحيح تعريف الواجب الكفائي (إذا قام به شخص أو مجموعة سقط عن الآخرين) فالآية الكريمة لا تدعم هذا التعريف لأن الآية أثبتت عقوبة الفئة التي لم ترتكب المعصية إلا أنهم لم يمارسوا دورهم في النهي عن المنكر، فلو كان تعريف علماء الأصول للواجب الكفائي صحيحاً لما عوقب هؤلاء لأن غيرهم قام بالنهي. فالتعريف واضح البطلان ولا ينسجم مع القرآن الكريم، والقاعدة الأساسية التي أسسها أهل البيت (عليهم السلام) هي أن نضرب عرض الجدار كل قضية وفكرة تعارض صريح القرآن. كما أن التعريف كان سبباً في تقاعس الأمة عن أداء دورها واتصافها بالتواكل والتماهل في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تنبري عقلية الفقيه القرآني ليبين البون الشاسع بين تعريفهم وبين الفهم القرآني والأصولي الحقيقي فيقول: (إن سبب سقوط التكليف عن الآخرين ليس هو قيام البعض بالنهي بل انتفاء موضوع النهي لأن قيام البعض ليس تاماً).
وأعتقد بأن أي عاقل يتمكن من تشخيص الفرق بين تعريف الأصوليين وبين ملاحظة المرجع اليعقوبي. وهنا ملاحظة ضرورية لو أن هذه الآية من آيات الأحكام لم لم ينتبه لها الأصوليون؟ فكم من الآيات التي لا تعد من آيات الأحكام عند الأصوليين يمكن للفقيه القرآني استنباط الأحكام الشرعية منها؟
الثمرة الثانية: على المستوى الفقهي: إن المشهور في الرسائل العملية عدة شروط لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها: احتمالية تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبخلافه لا يجب الأمر والنهي. ويؤكد المرجع اليعقوبي أن الآية لا تدعم هذا الشرط، فالفئة التي لم ترتكب المعصية إلا أنها لم تنه عن المنكر عملت بهذا الشرط أي أنهم احتملوا عدم التأثير بهم (لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً) إلا أن النتيجة كانت قد شملوا بالعذاب كما شمل مرتكبي المعصية. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الفئة الناجية لم تعمل بهذا الشرط فقالوا عندما لامهم الآخرون: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون). فيعلق سماحة المرجع قائلاً: على المؤمن الرسالي أن لا ييأس من هداية الناس وعليه أن يجرب أكثر من مرة وعليه أن يوجد حالة اجتماعية ضاغطة. وهذه الحال لا تتلاءم مع الشرط الذي وضعه الفقهاء في رسائلهم العملية.
إن هذه الآيات تدل على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أعظم فريضة في الإسلام لأن فيها تقام الفرائض وتحفظ الأرزاق وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي).
فأي خلل يقع في فهم الأبعاد الحقيقية والأسس لهذه الفريضة فإن الخلل يسري إلى كل الدين، وهذا ما نعيشه اليوم من خلل في الفهم الصحيح للدين.
وأعتقد أن هذا الخلاف الجوهري بين أرباب المدرسة القرآنية والقيادات الكلاسيكية الأخرى، فعلى الأمة أن تتوخى الدقة في اتباع قيادتهم، فالقيادة التي تأسس لفقه خلاف القرآن الكريم فإنها لا تمثل المنهج الحقيقي لأهل البيت (عليهم السلام).
بقلم الشيخ عبدالهادي الزيدي