في الكافي عن يعقوب بن شعيب قال: (قلت لأبي عبد الله -الصادق- عليه السلام: إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قوهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] قال: هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر، حتى يرجع إليهم أصحابهم). وعن محمد بن مسلم في حديث قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أفيسع الناس إذا مات العالم ألا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أما أهل هذه البلدة فلا – يعني المدينة – وأما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم، إن الله يقول: [وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ..] الآية).
والإمام (عليه السلام) هنا يعلم الناس كيف يتصرفون في حال غياب إمامهم، ويعطيهم آلية عامة لمعرفة المواقف تصلح لتطبيقها على اختيار المرجع بعد المرجع، فلا يسعهم أن يمكثوا في ديارهم إلى أن تأتيهم الأخبار ويسبق أهل الفتنة إليهم بأفكار تتحكم بتوجهاتهم وتورطهم في مواقف اجتماعية ليس لديهم علم مسبق بإجابتها، ولا بأن يتعطلوا عن التفكير بدعوى البعض أن اختيار المرجعية يتم برعاية صاحب الزمان وهم يرون كيف يتكالب ذلك البعض على التسقيط والترويج.
ولا يرضى الإمام (عليه السلام) أن يركن الناس إلى حسن الظن والكسل وهم يعلمون اختلاف الآراء والتوجهات.
بل لا بد يتحرك المتدينون بأنفسهم فيوفدوا مجموعة [فرقة منهم] وليس أفراداً متفرقين؛ لأن الفرد قد يخطئ وقد يشتبه ولكن الجماعة تتراشد بينها وتتوازن نوازعها ثم يخلصون إلى رأي واحد ينقلونه، فيوفد أهل كل بلدة مجموعة من خيار الناس وعقلائهم، ليس لينقلوا القيل والقال التي لا يعرف صاحبها، ولا الاتهامات المجملة التي يُظهر مطلقوها الورع، بل ليقفوا على الأمور ويفهموها ويستمعوا من الجميع ويدوروا على الشخصيات التي يُحتمل أن تحمل فكرة مغايرة ويوازنوا الأقوال بميزان شرعي ويستمعوا للحجج بشكل مباشر، فهم حاملو أمانة ثقيلة وهي وعي الناس وشهادة يُسألون عنها يوم القيامة، فلا بد أن يبحثوا من تنطبق عليه الشروط المذكورة في الرسائل العملية، وهل هو مجتهد؟ ومن الذي شهد له به الاجتهاد وهل أن الشهود مؤهلين للشهادة، وهل هناك ما يعارضها؟ ومن الأرجح؟ هل تتوفر فيه الشروط الأخرى؟ وهكذا.
ولا يجوز لهم أن يقعدوا في بيت رجل واحد من طلبة الحوزة هناك ليملي لهم قناعته ووجهة نظره، فإن هناك من طلبة الحوزة من يشتبه ويتصور أن ما يؤمن به هو قناعات الجميع وأن الوسط الحوزوي كله على هذا الرأي لا سيما إذا كان منشغلاً بالدرس لا يعرف مجاري الأمور، وهذا مطب يقع فيه أناس على درجة كبيرة من العلم فيذكر في بحثه أن المشهور كذا وكذا بينما لا يقول بهذا إلا أستاذه، وهناك مهارات للاستحواذ على العقول وتحصيل الاطمئنان النفسي للتعويض عن الحجة الشرعية، وقد رأينا كيف اشتبه رجل دين طيب القلب من السعودية جاء للنجف في ضيافة أحد الحواشي فأملى له ما أملى، فذهب إلى هناك منذراً مستفظعاً أن كيف أن السيد السيستاني حي وهناك في شارع الرسول عدة قطع مكتوب عليها: المرجع الفلاني! فتم تكذيبه من بعض أهل الحوزة بأن شارع الرسول ليس فيه أي مكتب آخر غير مكتب السيستاني، والاستخفاف به من قبل أهل الاطلاع على تأريخ الحوزة وواقعها بأن وجود مرجعيات متعددة هو حال النجف منذ قرون فليس فيه إهانة للسيد السيستاني ولعله يفرح بوجود مراجع متعددين يعينونه على رعاية الأمة ونشر العلم في الحوزة سواء أكانت مكاتبهم في شارع الرسول أو في غيره فوجود مراجع آخرين يعني وجود بحوث خارج أكثر ووجود علم أكثر، فالسيد السيستاني ليس بقالاً ليخاف من المنافسين. ولكن ذلك الحاشية يفهم غير ما يفهمه السيد السيستاني فهو يخشى من العلماء وتأخذه الغيرة على (منصب المرجعية) كما يسميه بينما لا تأخذه الغيرة على زائرات مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) اللائي يتعرضن للمضايقات من الباعة المتجولين في شارع الرسول بالتحرش والنظر الخادش وبالتهديد لتخويفهن للشراء منهن.
ودور النفير الاجتماعي والقدوم إلى الحوزة ثم العودة بالرأي إلى المجتمع كان ينبغي أن يقوم به طلبة الحوزة فيجتمعون في بلدتهم ويأتون للنجف (أعني لأوساط الحوزة ليس لمكان مبيتهم أو ضيافتهم) ويحملون الخبر اليقين لأهليهم، ولكن وللأسف دخلت الفتنة في كثير من بلداتنا وحصلت تقاطعات بين طلبة الحوزة هناك لأسباب كثيرة لا داعي لنشرها اليوم.
ولا يكفي الناس أن يأخذوا الرأي من رجل دين واحد أو وكيل يستحوذ عليهم، وهو الأمر الشائع عند كثير من الناس فإنهم يكتفون بما يقوله ذلك الوكيل الذي ابتعد عن أجواء الحوزة زماناً، ورسخت أفكاره في نفسه بعيداً عن الحركة الحوزوية فبقيت الأمور كما يعهدها من قبل، كما يُحتمل أن يكون منحرفاً كما انحرف عدد من وكلاء الأئمة (عليهم السلام) فيتفرغ طيلة سنين عمله عندهم لتأسيس قناعة عندهم وإيهامهم أن ما يقوله هو الحق المتسالم
عليه، فكم من عالم عندهم جاهل بسبب ذلك الوكيل وكم من حليم عندهم سفيه بجهوده.
والوكلاء ليسوا من أهل الخبرة عادة، فلا يحق لهم الشهادة باجتهاد فلان أو نفي اجتهاد فلان، فإنهم عادة يكتفون بمدة قليلة من الدراسة ليوفدوا للعمل كوكلاء، وتتركز مطالعاتهم في الغالب على المسائل الفقهية وتطبيقاتها وأقوال العلماء وليس على أدلتها والنقاشات فيها.
والإمام (عليه السلام) يأمر بالنفر والحركة والخروج من البيوت، ولا يسوغ الناس المكوث في ديارهم والاكتفاء بالنقل.
الدكتور عماد علي الهلالي