عند الحديث عن معيار الأعلمية في الفقه الشيعي، يتّضح أن عنصر اللغة يُمثّل محورًا أساسيًا لا يمكن إغفاله، بل يجب أن يُنظر إليه من زاوية أعمق من مجرد إتقان القواعد النحوية والصرفية.
.
فاللغة في الفقه ليست أداةً لفهم النصوص فحسب، بل هي مدخلٌ إلى إدراك المنظومة الفكرية والثقافية التي صيغت بها النصوص الدينية، مما يجعلها عاملًا مركزيًا في تحديد الأعلمية.
(1) اللغة: أكثر من مجرد أداة، بل هي منظومة ثقافية وفكرية
التطوّر الحديث في الدراسات اللغوية واللسانية، خصوصًا في مجال فلسفة اللغة واللسانيات الإدراكية (Cognitive Linguistics)، كشف أن اللغة ليست مجرد مجموعة قواعد وتراكيب، بل هي حاملٌ للثقافة والمفاهيم، وتؤثر في طريقة التفكير والفهم. وبهذا، فإن الفقيه الأعلم يجب أن يكون:
ملمًّا بالبعد الثقافي للغة العربية، بحيث يفهم كيف تشكّلت المصطلحات الفقهية والكلامية في سياقها التاريخي.
مدركًا لديناميكيات اللغة، بحيث يستطيع استنباط الأحكام الشرعية بناءً على فهم تطور دلالات الألفاظ عبر العصور.
متمكنًا من المقاربات الحديثة في تحليل النصوص الشرعية وفق مناهج علم الدلالة (Semantics) والتأويل اللغوي (Hermeneutics).
(2) الأعلمية ليست مجرد قوة استنباطية في الفقه، بل هي قدرة على التفاعل مع اللغة كظاهرة معرفية وثقافية. ولذلك، فإن معيار الأعلمية يجب أن يشمل:
التمكّن من الدراسات اللغوية الحديثة، وليس مجرد إتقان النحو والصرف.
الإحاطة بفلسفة اللغة وتأثيرها على فهم النصوص.
امتلاك رؤية ديناميكية للغة تساعد في التجديد الفقهي.
وبهذا، يصبح الفقيه الأعلم ليس فقط متفوّقًا في الاستنباط الفقهي التقليدي، بل أيضًا قادرًا على تقديم رؤية فقهية متجددة قائمة على فهم عميق وواعي للغة كمفتاحٍ للمعرفة الشرعية.
(3) الأعلمية واللغة: هل للفقيه العربي امتياز على غيره؟
إذا كان الفقه يعتمد بشكل أساسي على فهم النصوص الدينية واستنباط الأحكام منها، فإن اللغة تُشكل العمود الفقري لهذا الفهم. وبما أن النصوص الشرعية (القرآن والسنة) نزلت باللغة العربية وفي سياق ثقافي عربي، فمن المنطقي التساؤل: هل يتمتع الفقيه العربي بفرصة أكبر من غيره ليكون الأعلم؟
(4) الفقيه العربي بين اللغة والفهم الفقهي
الفقيه العربي يُولد في بيئة تتحدث العربية، مما يمنحه تفوقًا في إدراك البنية اللغوية والسياقية للنصوص الشرعية، فمثلاً:
– اللغة العربية ليست فقط قواعد نحوية وصرفية، بل هي تاريخ وثقافة ونمط تفكير، وهذا يجعل الفقيه العربي أكثر قدرة على التقاط الإشارات الثقافية والبيئية التي تؤثر في معنى النصوص.
– المحسّنات البلاغية، المجازات، الإشارات، والتراكيب اللغوية التي استخدمت في النصوص القرآنية والحديثية قد لا تُفهم بنفس العمق عند غير العربي، حتى لو أتقن اللغة نحويًا.
– الفقيه العربي غالبًا ما ينشأ وهو متشرّبٌ للغة الفقهية التقليدية، مما يسهل عليه فهم التراث الفقهي دون الحاجة إلى الاعتماد على الترجمات والشروح .
(5) اللغة ليست مجرد كلمات، بل سياقات ومعانٍ متحولة
رغم أن الفقيه العربي يمتلك هذا الامتياز، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن فهم اللغة لا يعني بالضرورة امتلاك الفهم الفقهي الأعمق. هناك عوامل أخرى مؤثرة:
– التأثير الزماني والمكاني على اللغة: العربية التي نزل بها الوحي ليست بالضبط عربية اليوم، وهناك تغيرات دلالية حدثت على مر العصور، مما يجعل من الضروري دراسة اللغة في سياقها الأصلي وليس فقط الاعتماد على المعاني المعاصرة.
– تأثير المدارس الفقهية والتخصص الأكاديمي: الفقيه غير العربي، إذا كان متبحرًا في دراسات اللغة العربية واللسانيات التاريخية، قد يمتلك فهمًا أكثر دقة من العربي الذي لم يدرس الفقه بعمق، لأن الفهم الفقهي لا يعتمد فقط على كون الشخص ناطقًا بالعربية، بل على مدى استيعابه للنصوص بأدوات علمية دقيقة.
– الإدراك العابر للثقافات: في بعض الأحيان، الفقيه غير العربي قد يكون أكثر موضوعية في فهم النصوص، لأنه غير مقيّد بالسياق الثقافي المعاصر للعرب، مما يسمح له برؤية الأمور من منظور مختلف وأكثر تجريدًا.
(6) الخلاصة: هل اللغة تعطي الفقيه العربي تفوقًا مطلقًا؟
الفقيه العربي يمتلك ميزة طبيعية كونه ابن اللغة والثقافة التي وُلدت فيها النصوص، لكنه ليس بالضرورة الأجدر بالأعلمية إلا إذا أضيف إلى هذه الميزة دراية أصولية وفقهية متينة.
الفقيه غير العربي، إذا استوفى الشروط العلمية بدراسة اللغة بعمق، وكان أكثر دقة في الاستنباط وأوسع في الفهم الأصولي، فقد يصل إلى مرتبة الأعلمية حتى وإن لم يكن عربيًا أصيلًا.
معيار الأعلمية لا يُحدَّد بالهوية اللغوية فقط، بل بمدى التمكن العلمي، والتفاعل العميق مع النصوص، والقدرة على معالجة القضايا الفقهية بذكاء ومنهجية دقيقة.
الشيخ هادي حسين ناصري