كتب زهير حمودي الجبوري… بات مفهوم الامن الفكري من المفاهيم الحديثة التي تحتل مساحة واسعة من الاهتمام في الأوساط الفكرية والثقافية والاكاديمية، لما يشكله هذا المفهوم من أهمية في تحصين الانسان والمجتمع فكرا وسلوكا بما لا يتعارض مع القيم والاعتقادات السائدة في الدولة.
ومن الجميل أن يكون الامن الفكري ساحة أهتمام مشترك بين الفاعل الديني مع الفاعل الثقافي والأكاديمي والسياسي، لذلك نجد طيف واسع من التعريفات للامن الفكري تأتي من تعدد الخلفية الفكرية والمعرفية لصاحب التعريف.
– مفهوم الامن الفكري : نحاول من خلال هذه السطور أستعراض بعض التعريفات المطروحة للامن الفكري مع بيان الخلفيات المنتجة للتعريف والواضحة من خلال المفردات الواردة في التعريف .
1 – عرف الدكتور حيدر بن عبد الرحمن الحيدر الامن الفكري(تأمين خلو أفكار وعقول المجتمع من كل فكر شائب ومعتقد خاطيء يشكل خطرا على نظام الدولة وأمنها وبما يهدف إلى تحقيق الامن والاستقرار في الحياة الاجتماعية وذلك من خلال برامج وخطط الدولة التي تقوم على الارتقاء بالوعي العام لأبناء المجتمع) يتضح من خلال التعريف انه يعبر عن وجهة نظر الدولة للامن الفكري ودورها في صياغته وأعداد وتنفيذ برامجه.
2 – يعرف الباحث علي بن فايز الجحني الامن الفكري ( سلامة فكر الإنسان وعقله وفهمه من الانحراف والخروج عن الوسطية والاعتدال في فهمه للأمور الدينية وتصوره للكون بما يؤول به إلى الغلو والتنطع أو إلى الالحاد والعلمنة الشاملة ) وركز هذا التعريف على البعد الديني في مفهوم الامن الفكري.
3 – عرف الباحث جميل بن عبيد القرارعة الامن الفكري ( المفاهيم والتصورات الاعتقادية والمباديء والقيم والقناعات التي تشي بأسباب السلامة والطمأنينة في المجتمع وتقيه من عوامل الخوف والارهاب ومسببات الخطر ونحوها من دوافع الجنوح نحو الجريمة والعنف التي تهدد النفوس والاموال ) ويظهر بشكل جلي البعد الامني في هذا التعريف.
4 – وقد عرفت د. فاطمة بن خليفة الامن الفكري ( النشاط والتدابير المشتركة بين الدولة والمجتمع لتجنب الأفراد والمجتمعات شوائب عقدية أو فكرية أو نفسية تكون سببا في أنحراف السلوك والأفكار والاخلاق عن جادة الصواب أو سببا للإيقاع في المهالك) ويمكننا ان نتلمس البصمة السياسية في هذا التعريف من خلال مشاركة الدولة والمجتمع في تحقيق الامن الفكري .
– التأصيل الإسلامي في الامن الفكري : بالرغم من حداثة مصطلح الامن الفكري إلا اننا نجد ما يدور في فلكه وبمفردات قريبة وتوصل إلى نفس المعنى المراد من المصطلح .
ينظر الإسلام إلى الامن الفكري هو ضمان استقرار الفكر والعقيدة، وحماية الإنسان من الانحرافات الفكرية والعقائدية التي تؤدي إلى الفوضى والاضطراب. يستند هذا المفهوم إلى عدة أصول شرعية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحاديث أئمة أهل البيت والتراث الإسلامي الغزير بالقيم الإنسانية .
فقد حذر القرآن الكريم من الفتن الفكرية التي يتعرض لها الإنسان المسلم بقوله ( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
وبنفس الوقت دعا الإسلام إلى الوسطية والاعتدال الفكري بقوله تعالى ( وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). وأكد الرسول الأكرم (ص) في مواطن كثيرة على أهمية تحصين فكر الإنسان المسلم من الانحرافات التي تواجهه في الحياة بقوله (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة” قيل: وما الرويبضة؟ قال: “الرجل التافه يتكلم ). وقال (ص) : عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ).
الامن الفكري في نهج البلاغة :
جمع كتاب نهج البلاغة مجموعة قيمة من خطب ووصايا الامام علي (ع) التي يمكن ان تكون منهاج حياتي متكامل للانسان المسلم ، وعندما نتحدث عن الامن الفكري كمفهوم حديث يمكن من خلال النقاط التالية نجد في نهج البلاغة وكلام سيد البلغاء ما يؤصّل للمفهوم في كثير من المواقف وكما يلي :
1 – الامن الفكري مفهوم ثقافي أسلامي : أنتج الدين الإسلامي ثقافته المتميزة والمعبرة عن روح الدين والنابعة من الهدي القرآني والحديث النبوي وكلام اهل بيت النبوة فصارت الثقافة الإسلامية منارة يستمد منها الغرب الكثير من المفاهيم والقيم الإنسانية كونها تنبع من نبع صافي ، حيث يقول الامام علي ( ع ): (من طاب سقيه طاب غرسه، ومن خبث سقيه خبث غرسه) حيث جعل الثقافة بمثابة الماء الذي يطيب به الغرس الإنساني ،وقال الامام في موطن آخر ( أنما الناس رجلان ،متبع شرعة ، ومبتدع بدعة) بمعنى الثقافة السليمة هي المستمدة من شريعة واضحة الأصل والبيان ، اما البدع التي لايعرف أصلها تورد المهالك.
2 – الامن الفكري مفهوم سلوك أسلامي : سلوك الإنسان المسلم يعكس بالتأكيد القيم والعقائد التي يؤمن بها وتمنحه الهوية المميزة وتعبر عن سلامته الفكرية ومحتواه العقائدي والذي يطهر في كلامه ومنطقه وأسلوبه الحياتي وطريقة تعامله مع أفراد المجتمع ، ويصف الامام علي (ع) هذا السلوك بقوله ( طوبى لمن ذل في نفسه ،وطاب كسبه ،وصلحت سريرته ، وحسنت خليفته ) فسلوك الإنسان المسلم يتميز بترك الزهو والكبرياء وكسب الرزق الحلال ونقاء النفس ليكون معبرا عن دينه بسلوك متزن ليكون مصداق قول الامام علي ( من أصلح سريرته ، أصلح الله علانيته).
3 – الامن الفكري مفهوم رمزي أسلامي : رمزية القيم الإسلامية التي يعتقدها المسلم تمنحه الحصانة الفكرية من الانحراف والابتعاد عن جادة الحق فيصون نفسه ويأمن الناس منه ، فقد أوصى الامام علي (ع) الانسان المسلم بذلك ( فاتقوا الله ، عباد الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه ،وتنكب المخالج عن وضح السبيل ، وسلك أقصد المسالك في النهج المطلوب ، لم تفتله قاتلات الغرور، ولم تقم عليه شبهات الأمور ) ، كما وصف الامام سمات الانسان المسلم ( قوم والله ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ،مقاويل الحق ، متاريك للبغي ،مضى قدما على الطريقة ، فظفروا بالعقبى الدائمة والكرامة البارزة ) فهذه السمات تحصن فكر الإنسان المسلم وتكون عاقبتها الكرامة والعزة .
4 – الامن الفكري أمن مادي ملموس : يبرز الامن الفكري للأفراد بقدرتهم على الاندماج في دورة الحياة المجتمعية ويرتكز على مبدأ الوقاية التي تحول بين المسلم والوقوع في الشبهات والانحراف ويشمل الحفاظ على أمن النفوس والأعراض والاموال والدين والعقل ومنع كافة الجرائم التي تعرض أمنه وأمن المجتمع ، وهذا يتحقق باللجوء إلى الله تعالى وتعاليمه ( أمره قضاء وحكمة ، ورضاه أمان ورحمة ، يقضي بعلم ، ويعفو بحلم) التي تبعث على الامن والاطمئنان ، ويتحقق ذلك بالالتزام بنهج الدين القويم الذي وصفه الامام علي -ع- ( ولأن الدين قوامه الاعتقاد ومادته الفكر ، وحياته العمل به ، فأن الامن يحقق كل ذلك، فمن أمن عمل ، ومن عمل أحتاج إلى الفكر ، وبالفكر يستقيم الاعتقاد).
5 – الامن الفكري مفهوم نفسي :الامن الفكري للفرد ينبع من صلاح النفس البشرية وما يبثه الدين الاسلامي في نفس المؤمن من مباديء سماوية وقيم عالية ، وأن القلب السليم والنفس النقية عاملان مهمان في تحصين الامن الفكري لأنهما يوجهان الفرد إلى طريق الحق والتقوى والاستقامة والعدل ، لذلك يرى الامام علي -ع- ان التأسي بالنبي ينجي من الانحراف والهلكة ( فتأسى متأسي بنبيه ، وأقتص أثره ، وولج مولجه، والا فلا يأمن الهلكة).وقال عليه السلام ( من أستهان بالامانة ، ورتع في الخيانة، ولم ينزه دينه ونفسه عنها ، فقد أحلّ نفسه الذل والخزي في الدنيا ، وهو في الآخرة أذل وأخزى).
6 – الامن الفكري منظومة حكم : تلعب منظومة الحكم دورا فاعلا في بناء الامن الفكري في المجتمع وبنفس الوقت تحتاج هذه المنظومة الحاكمة الى أمن فكري يحصن الحكم عن الانحراف والظلم وتأمين العدالة والامن المجتمعي لذلك يعهد الامام علي -ع- إلى ولاته في الأمصار بمجموعة من الوصايا التي تحافظ على أمن الامة الإسلامية بقوله ( ليكن نظرك في عمارة الارض ، أبلغ من نظرك في أستجلاب الخراج، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا) وفي موطن آخر ( أن أفضل قرة عين الولاة ، أستقامة العدالة في البلاد وظهور مودة الرعية ، ولاتكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ).
الخلاصة :
أن الامن الفكري كمفهوم حديث يتطابق بشكل تام مع مقاصد الشريعة الإسلامية في جملة من النواحي وكما يلي :
- حفظ الدين: من خلال حماية العقيدة الصحيحة من البدع والانحرافات الفكرية.
- حفظ النفس: من خلال منع الفكر المتطرف الذي يؤدي إلى العنف والإرهاب والانحلال الاخلاقي
- حفظ العقل: من خلال تحصينه ضد الشبهات والمغالطات الفكرية والانحرافات العقلية
- حفظ النسل: من خلال حماية الأسرة من الأفكار الهدامة التي تؤثر على القيم الأخلاقية.
- حفظ المال: من خلال مواجهة الفكر الاقتصادي المنحرف كالربا والاحتيال والتجويع .