(الحلقة الأولى)
على الرغم من قصر الفترة الزمنية التي فسحها الله تبارك تعالى بلطفه أمام مرجعيّة الشهيد الصدر الثاني (قدّس سرّه)، إلا أنّها حفلت بعطاء ثرّ وفيّاض سعة ونوعاً، فضلاً عن التسديد الإلهي الذي شهده القاصي والداني، والذي كان يأخذ بمجامع القلوب، ولعلّ من أبرز مظاهر هذه المرجعيّة تنوع المشاريع الإسلاميّة على بساطة بعضها إلاّ أنّها لمّا كانت مغطـّاة بتراب سنوات الإهمال واللامبالاة، حتّى صار مجيء السيد الشهيد بها كأنّه جاء بدين جديد غير الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا سرعان ما أخذت تأثيرها في الأمّة على مختلف مستوياتها.
ولا أريد أن أخوض في هذه العجالة في أسباب نجاح تلك المشاريع وسرعة تأثيرها وتفاعل الجماهير معها، بقدر ما أود أن أسلط الضوء على توجّه ممنهج ومدروس اشتركت فيه أوساط وجهات إقليميّة ودوليّة ومحلّيّة في القضاء على تلك المشاريع مشروع بعد مشروع، الأمر الذي أدى إلى استبدال الثناء عليه وعليها، بانتقاد وذمّ تلك الحركة حتّى من بعض أبناء تلك الحركة المباركة، وما ذاك إلاّ لذلك المشروع المضاد الذي عمل ولا يزال يعمل على اغتيال جميع المشاريع التي قام بها الشهيد الصدر الثاني، وغسيل الأدمغة، ومحو الذاكرة وتشويه الصورة.
وسأبدأ في هذه الحلقة ـ بإذنه تعالى ـ بالتعريج على المشروع الأول الذي تمّ اغتياله وبنجاح ـ للأسف الشديد ـ بعد أن كان من أقوى وأضخم، بل وأخطر المشاريع التي قام بها (قدّس سرّه) ونفض عنها غبار الزمن، ألا وهو مشروع «صلاة الجمعة المباركة».
فبعد أن شهد العراق حركة لا نظير لها على مدى تاريخه الطويل بكلّ حركاته الإسلامية تفاعلاً منقطع النظير مع شعيرة عبادية جهادية، تحرّكت نحوها الجماهير بكلّ طبقاتها الاجتماعية وعلى كلّ مستوياتها الثقافية، وبمختلف المراحل العمريّة شيباً وشبّاناً، رجالاً ونساءً، فكانت الأمّة تعيش حالة الانتظار من الجمعة إلى الجمعة أشد ممّا تنتظر هلال العيد، وتترقّب كلمات الخطباء وما ستجود به قريحتهم ـ مع أنّها كانت متواضعة المضامين ـ كأنّما الناس يسمعون الدين لأول مرّة في حياتهم لما عاشوه من ضمأ السنين المعرفي ومنع الثقافة الدينية، وأعجب ما فيها أنّها صارت منصّة لتوبة التائبين، ورجوع المنيبين، حتّى صارت الكلمة الفصل بين المشروع الإسلامي والنظام العفلقي، والتي ساموا شهيدنا الصدر بين حياته والجمعة فأبى إلاّ الجمعة، وصارت وصيّته المدويّة: «حافظوا على صلاة الجمعة حتّى لو مات السيد محمد الصدر» تصمّ أسماع الأعداء، وتسر قلوب الأصدقاء.
وما إن رقت روح شهيدنا المقدّس لبارئها، وهوى عرش العفالقة إلى أسفل سافلين حتّى بدت «حسيكة النفاق» ومخططات الشيطان، ورعونة الجهلاء بالانقضاض على هذا المشروع الإلهي الخالص وذلك من خلال عدّة أساليب منها:
١. إسراع جميع الجهات ـ بما فيها تلك الجهات التي كانت معارضة لإقامتها وتعتبر إقامتها فتنة ووسيلة للقضاء على المذهب ـ إلى تبنى إقامتها بنفسها، لأغراض وأهداف شتّى منها استئثارها بجماهيرها لكيْ لا يختلطوا مع جماهير غيرهم، ولا يُنتقدوهم بأنّ الجمعة ذات فوائد لماذا حرمتمونا منها. حتّى انتهت الأمور إلى التقاتل لإقامة الجمعة وحسابها لهذه الجهة أو تلك.
٢. الجهات القادمة من الخارج سارعت أيضاً إلى إقامة الجمعة لاقتسام حصّة من الجماهير لها لكيْ لا يفوتها شيء من الشعب الذي صار كعكعة ككعكعة السياسة التي اقتسموها نهباً وسلباً.
٣. لم تخلص بعض المرجعيات القاطنة خارج العراق من المساهمة في وأد هذا المشروع بإعطاء فتاوى وإجازات من دون مراعاة الوضع الاجتماعي للشعب العراقي وجماهيره، وطبيعة الهدف الذي رامه شهيدنا الصدر.
٤. الذين أقاموا الجمعات المتفرقة أنفسهم لم يراعوا الحكم الشرعي في المحافظة على المسافة الشرعيّة التي هي شرط إقامة صلاة الجمعة، وكلّ يتهم الآخر بالفسق ليصحح جمعته، حتّى صارت في بعض الأماكن ثلاث جمعات في كيلوا متر مربع واحد، مع أنّ الشرط الشرعي أن يكون بين جمعة وأخرى مسافة فرسخ على الأقل أي ما يقارب الخمس كيلو مترات.
٥. صار المنبر مطيّة لمن هبّ ودبّ، واعتلاه أشخاص بلا دين ولا ورع ولا كفاءة، ليتكلموا بما في داخلهم من عقد نفسية وأحقاد شخصية، الأمر الذي انتهى بتنفّر الناس عن حضور الجمعة. بعد أن صار منبر الجمعة مكاناً لتصفية الحسابات وتسقيط الآخرين، «حتّى استامه كلّ مفلس».
٦. تركت خطب الجمعة الوظيفة الشرعية في تثقيف الأمّة وتنبيهها لمّا يراد منها، ويحاك ضدّها من مخططات سياسية وثقافية وعسكرية وغيرها، وانشغلت بشخصنة المنبر للدفاع عن الجهة والانتماء، ومحاربة الآخر حتّى لو كان شريكاً لها في الدين والمذهب والوطن.
٧. وهنا وجدت الدوائر الاستكباريّة ضالتها في توجيه أجهزة إعلامها لتغطية الصلوات التي تحقّق أهدافها غير المعلنة من تقوية جهة على أخرى بشكل مبطن، حتّى تستغرب أن قناة الجزيرة التي ترعى الاتجاه الطائفي بامتياز تقوم بنقل صلاة الجمعة الشيعية؟!!، ولمّا دخل الإعلام الإسلامي «السياسي» في تغطية «مقتطفات من صلاة الجمعة» بدأ يقتطع ما ينفع أغراضه ويثير الفتنة بين المؤمنين.
وغيرها من الأساليب التي يعجز القلم عن إحصائها ويدمى القلب لذكرها، والتي حقّقت أهدافها المنشودة من عزوف الناس عن الجمعة حتّى ممن يقلد مَن يقول بوجوبها التعييني، وتشتت الجماهير وانقسامها إلى انتماءات وتيارات وأحزاب، ولا يخفى ما لهذا من نتائج خطيرة قد نتعرّض لها في مقالات أخرى.
وأخيراً وليس آخراً، أنّه ليس من الغريب أن نسمع من يتهم الصدر بأنّ مشروعه لم يكن بالمستوى المطلوب، فضلاً عن أن يكون مقبولاً، بل يصفه بأنّه كان فاشلاً خصوصاً إذا نظرنا إلى أنّ عدداً من أئمة الجمع لم يلتزموا بالمشروع الذي رسمه شهيدنا المقدّس وخالفوا أبسط مقوّماته وتسببوا في انحراف أنفسهم وانحراف الناس عن الحقّ، إضافة إلى توظيف عناوينهم كأئمة جمع لمصالحهم الشخصية ومصالح عوائلهم، الأمر الذي زاد الطين بلّة في أعين الناس.
وكأنهم لم يقرؤوا قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
فرحم الله تعالى شهيدنا الصدر وجزاه خير الجزاء على ما بذل وسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
الشيخ يوسف الكناني
ليلة ٣ / ذي القعدة / ١٤٤٣
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية